في وذكر شيء من فضائلها ، ومناقبها خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها ، وجعل جنات الفردوس منقلبها ومثواها ، وقد فعل ذلك لا [ ص: 316 ] محالة ، بخبر الصادق المصدوق ، حيث بشرها ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ، ولا نصب . وفاة
قال يعقوب بن سفيان : حدثنا أبو صالح ، حدثنا الليث ، حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : قال عروة بن الزبير : وقد كانت خديجة توفيت قبل أن تفرض الصلاة .
ثم روى من وجه آخر ، عن الزهري ، أنه قال : توفيت خديجة بمكة ، قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وقبل أن تفرض الصلاة .
وقال محمد بن إسحاق : خديجة وأبو طالب في عام واحد . ماتت
وقال : بلغني أن البيهقي خديجة توفيت بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام . ذكره أبو عبد الله بن منده في كتاب " المعرفة " ، وشيخنا أبو عبد الله الحافظ . قال : وزعم البيهقي الواقدي أن خديجة ، وأبا طالب ، ماتا قبل الهجرة بثلاث سنين ، عام خرجوا من الشعب ، وأن خديجة توفيت قبل أبي طالب بخمس وثلاثين ليلة .
قلت : مرادهم قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء ، وكان [ ص: 317 ] الأنسب بنا أن نذكر وفاة أبي طالب قبل الإسراء ، كما ذكره وخديجة وغير واحد . ولكن أخرنا ذلك عن الإسراء لمقصد ستطلع عليه بعد ذلك ، فإن الكلام به ينتظم ويتسق السياق ، كما تقف على ذلك إن شاء الله . البيهقي
وقال : حدثنا البخاري قتيبة ، حدثنا عن محمد بن فضيل بن غزوان ، عمارة ، عن أبي زرعة ، عن قال : أبي هريرة ، أتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام - أو طعام أو شراب - فإذا هي أتتك ، فاقرأ عليها السلام من ربها ومني ، وبشرها من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب . ببيت في الجنة وقد رواه مسلم من حديث به . محمد بن فضيل
وقال : حدثنا البخاري مسدد ، حدثنا يحيى ، عن إسماعيل ، قال : رضي الله عنهما : بشر النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي أوفى ، خديجة ؟ قال : نعم ، ببيت من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب . ورواه قلت أيضا ، البخاري ومسلم من طرق ، عن إسماعيل بن أبي خالد به .
قال السهيلي : وإنما بشرها ببيت في الجنة من قصب - يعني : قصب اللؤلؤ - لأنها حازت قصب السبق إلى الإيمان ، لا صخب فيه ولا نصب ، لأنها لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تتعبه يوما من الدهر ، فلم تصخب [ ص: 318 ] عليه يوما ، ولا آذته أبدا .
وأخرجاه في " الصحيحين " من حديث عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عائشة رضي الله عنها ، أنها قالت : ما غرت على امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة - وهلكت قبل أن يتزوجني - لما كنت أسمعه يذكرها ، وأمره الله أن يبشرها ببيت من قصب ، وإن كان ليذبح الشاة فيهدي في خلائلها منها ما يسعهن . لفظ . وفي لفظ له عن البخاري عائشة : خديجة ، من كثرة ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها ، قالت : وتزوجني بعدها بثلاث سنين ، وأمره ربه عز وجل - أو ما غرت على امرأة ما غرت على جبريل عليه السلام - أن يبشرها ببيت في الجنة من قصب . وفي لفظ له ، قالت : ما غرت على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة ، وما رأيتها ، ولكن كان يكثر ذكرها ، وربما ذبح الشاة ، ثم يقطعها أعضاء ، ثم يبعثها في صدائق خديجة ، فربما قلت له : كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة . فيقول : " إنها كانت وكانت ، وكان لي منها ولد "
ثم قال : حدثنا البخاري إسماعيل بن خليل ، أخبرنا علي بن مسهر ، عن عن أبيه عن هشام بن عروة ، عائشة ، قالت : استأذنت [ ص: 319 ] هالة بنت خويلد أخت خديجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرف استئذان خديجة ، فارتاع ، فقال : " اللهم هالة " . فغرت ، فقلت : ما تذكر من عجوز من عجائز قريش ، حمراء الشدقين ، هلكت في الدهر ، قد أبدلك الله خيرا منها . وهكذا رواه مسلم ، عن عن سويد بن سعيد ، علي بن مسهر به .
وهذا ظاهر في التقرير على أن عائشة خير من خديجة ، إما فضلا وإما عشرة; إذ لم ينكر عليها ، ولا رد عليها ذلك ، كما هو ظاهر سياق رحمه الله . البخاري ،
ولكن قال : حدثنا الإمام أحمد مؤمل أبو عبد الرحمن ، حدثنا ، عن حماد - هو ابن سلمة - ، عن عبد الملك - هو ابن عمير - عن موسى بن طلحة ، عائشة ، قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خديجة فأطنب في الثناء عليها ، فأدركني ما يدرك النساء من الغيرة ، فقلت : لقد أعقبك الله يا رسول الله من عجوز من عجائز قريش حمراء الشدقين . قالت : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا لم أره تغير عند شيء قط ، إلا عند نزول الوحي ، أو عند المخيلة حتى يعلم ، رحمة أو عذاب
[ ص: 320 ] وكذا رواه عن بهز بن أسد وعثمان بن مسلم ، كلاهما عن حماد بن سلمة ، عن به ، وزاد بعد قوله : حمراء الشدقين : عبد الملك بن عمير هلكت في الدهر الأول . قالت : فتمعر وجهه تمعرا ، ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي ، أو عند المخيلة حتى ينظر; أرحمة أو عذابا ؟ تفرد به أحمد ، وهذا إسناد جيد .
وقال أيضا : ثنا الإمام أحمد علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله ، أخبرنا مجالد ، عن الشعبي ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر خديجة أثنى عليها بأحسن الثناء ، قالت : فغرت يوما . فقلت : ما أكثر ما تذكرها ، حمراء الشدق ، قد أبدلك الله خيرا منها . قال : " ما أبدلني الله خيرا منها ، قد آمنت بي إذ كفر بي الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، وواستني بمالها إذ حرمني الناس ، ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء " . تفرد به أحمد أيضا ، وإسناده لا بأس به ، روى له ومجالد مسلم متابعة ، وفيه كلام مشهور . والله أعلم .
ولعل هذا - أعني قوله : " ورزقني الله ولدها إذ حرمني أولاد النساء " [ ص: 321 ] كان قبل أن يولد إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم من مارية ، وقبل مقدمها بالكلية . وهذا متعين فإن جميع أولاد النبي صلى الله عليه وسلم - كما تقدم وكما سيأتي من خديجة ، إلا إبراهيم ، فمن مارية القبطية المصرية رضي الله عنها . وقد استدل بهذا الحديث جماعة من أهل العلم على خديجة على عائشة رضي الله عنهما وأرضاهما ، وتكلم آخرون في إسناده ، وتأوله آخرون على أنها كانت خيرا عشرة ، وهو محتمل أو ظاهر ، وسببه أن تفضيل عائشة سمت بشبابها ، وحسنها ، وجميل عشرتها ، وليس مرادها بقولها : قد أبدلك الله خيرا منها . أنها تزكي نفسها وتفضلها على خديجة ، فإن هذا أمر مرجعه إلى الله عز وجل ، كما قال فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ النجم : 32 ] وقال تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء [ النساء : 49 ] الآية .
وهذه مسألة وقع النزاع فيها بين العلماء قديما وحديثا ، وتجاذبها طرفا نقيض; أهل التشيع وغيرهم ، لا يعدلون بخديجة أحدا من النساء ، لسلام الرب عليها ، وكون ولد النبي صلى الله عليه وسلم جميعهم - إلا إبراهيم - منها ، وكونه لم يتزوج عليها حتى ماتت; إكراما لها ، وتقدم إسلامها ، وكونها من الصديقات ، ولها مقام صدق في أول البعثة ، وبذلت نفسها ومالها لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
[ ص: 322 ] وأما أهل السنة; فمنهم من يغلو أيضا ، ويثبت لكل واحدة منهما من الفضائل ما هو معروف ، ولكن تحملهم قوة التسنن على تفضيل عائشة; لكونها ابنة الصديق ، ولكونها أعلم من خديجة ، فإنه لم يكن في الأمم مثل عائشة في حفظها وعلمها وفصاحتها وعقلها ، ولم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يحب أحدا من نسائه كمحبته إياها ، ونزلت براءتها من فوق سبع سماوات ، وروت بعده عنه ، عليه السلام ، علما جما كثيرا طيبا مباركا فيه ، حتى قد ذكر كثير من الناس الحديث المشهور : " خذوا شطر دينكم عن الحميراء "
والحق أن كلا منهما لها من الفضائل ما لو نظر الناظر فيه لبهره وحيره ، والأحسن التوقف في ذلك ، ورد علم ذلك ، إلى الله عز وجل ، ومن ظهر له دليل يقطع به ، أو يغلب على ظنه في هذا الباب ، فذاك الذي يجب عليه أن يقول بما عنده من العلم ، ومن حصل له توقف في هذه المسألة ، أو في غيرها ، فالطريق الأقوم والمسلك الأسلم أن يقول : الله أعلم .
وقد روى الإمام أحمد ، ، والبخاري ومسلم ، ، والترمذي من [ ص: 323 ] طرق ، عن والنسائي ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة ، عبد الله بن جعفر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مريم بنت عمران ، وخير نسائها " . خديجة بنت خويلد أي : خير زمانهما . خير نسائها
وروى شعبة ، عن معاوية بن قرة ، عن أبيه قرة بن إياس ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا ثلاث; مريم بنت عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وفضل وخديجة بنت خويلد ، عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . رواه ابن مردويه في " تفسيره " . وهذا إسناد صحيح إلى شعبة ، وبعده . قالوا : والقدر المشترك بين هذه الثلاث نسوة ، آسية ومريم أن كلا منهن كفلت نبيا مرسلا ، وأحسنت الصحبة في كفالتها ، وصدقته; وخديجة ، فآسية ربت موسى ، وأحسنت إليه ، وصدقته حين بعث ، ومريم كفلت ولدها أتم كفالة وأعظمها ، وصدقته حين أرسل ، رغبت في تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بها ، وبذلت في ذلك أموالها كما تقدم ، وصدقته حين نزل عليه الوحي من الله عز وجل . وخديجة
وقوله : " وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام " . هو ثابت في " الصحيحين " من طريق شعبة أيضا ، عن عمرو بن مرة ، عن عن مرة الطيب الهمداني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي موسى الأشعري ، كمل [ ص: 324 ] من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء ، كفضل الثريد على سائر الطعام " . والثريد : هو الخبز واللحم جميعا ، وهو أفخر طعام العرب ، كما قال بعض الشعراء :
إذا ما الخبز تأدمه بلحم فذاك أمانة الله الثريد
ويحتمل قوله : " وفضل عائشة على النساء " أن يكون عاما ، فيعم النساء المذكورات وغيرهن ، ويحتمل أن يكون عاما فيما عداهن ، ويبقى الكلام فيها وفيهن موقوفا يحتمل التسوية بينهن ، فيحتاج مرجح واحدة منهن على غيرها إلى دليل من خارج . والله أعلم .