والعدل نوعان:
أحدهما: هو الغاية، والمأمور بها، فليس فوقه شيء هو أفضل منه يؤمر به، وهو العدل بين الناس.
والثاني: ما يكون الإحسان أفضل منه، وهو عدل الإنسان بينه وبين خصمه في الدم والمال والعرض، فإن الاستيفاء عدل، والعفو إحسان، والإحسان هنا أفضل، لكن هذا الإحسان لا يكون إحسانا إلا بعد العدل، كما قدمناه، وهو أن لا يحصل بالعفو ضرر، فإذا حصل منه ضرر، كان ظلما من العافي، إما لنفسه، وإما لغيره، فلا يشرع. [ ص: 39 ]
فالعدل واجب في جميع الأمور، والإحسان قد يكون واجبا، وقد يكون مستحبا، ففي الحكم بين الناس والقسم بينهم ما ثم إلا العدل، والعدل بينهم إحسان إليهم، وفيما بين الناس وبينهم مستحب له الإحسان إليهم، بفعل المستحبات من الابتداء بالإحسان الذي ليس بواجب، والعفو عن حقوقه عليهم، ويدخل في قوله تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين .
ونكتة هذا الكلام أن يفرق الإنسان بين العدل الذي هو الغاية، وليس بعده إحسان، وهو العدل بين الناس، وبين العدل الذي فوقه الإحسان، وهو العدل مع الناس. الأول: حق الخلق عليه، والثاني: حق له عليهم. فلكل منهما على صاحبه العدل، فعليه أن يوفيهم العدل الذي عليه، وليس عليه أن يستوفي العدل منهم، بل قد يستحب له الإحسان بتركه.
ومن العدل الواجب- كما قررته في غير هذا الموضع- أن الظالم لا يجوز أن يظلم، بل لا يعتدى عليه إلا بقدر ظلمه، كما قال تعالى: وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين ، وقال: فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ، وقال تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا [ ص: 40 ] تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وقال: ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى ، وقال: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا .
وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة".
فتبين أن ومعلوم أن الظلم الذي يستحق به العقوبة- سواء كان في حق الله أو حقوق عباده- لا يخرج عن ظلم في الدين، وظلم في الدنيا، وقد يجتمعان، فالأول كالكفر والبدع، والثاني كالاعتداء على النفوس والأموال والأعراض. الإحسان واجب حتى في القتل المستحق بإحسان القتلة والذبحة،