[ ص: 218 ]
[ ص: 219 ] فصل
الأقوال نوعان [ ص: 220 ] [ ص: 221 ] فصل الأقوال نوعان:
عرفه من عرفه وجهله من جهله. والبحث في ذلك إنما هو عن معرفة ما أرادته الأنبياء بأقوالهم. ومن طلب تفسير كلامهم وتأويله، ومقصوده معرفة مرادهم من الوجه الذي به يعرف مرادهم فقد سلك طريق الهدى؟ ومن كان مقصوده أن يجعل ما قالوه تبعا له، فإن وافقه قبله وإلا رده، وتكلف له من التحريف ما يسميه تأويلا، مع أنه يعلم بالضرورة أن كثيرا من ذلك أو أكثره لم ترده الأنبياء فهذا محرف للكلم عن مواضعه، لا طالب لمعرفة التأويل الذي يعرفه الراسخون في العلم. أقوال ثابتة عن الأنبياء، فهي معصومة، يجب أن يكون معناها حقا،
والنوع الثاني: ما ليس منقولا عن الأنبياء، فقد علم أن من سواهم ليس بمعصوم، وحينئذ فلا يقبل كلامه ولا يرد إلا بعد تصور مراده ومعرفة صلاحه من فساده، فمن قال من أهل الكلام والجدل: إنه لا يفعل الأشياء بالأسباب، بل يفعل عندها لا بها، ولا يفعل لحكمة، وإنه لا يجعل في الأعيان صفات وطبائع وخواص يميز بها بين موصوف وموصوف، وباعتبارها يحصل ما يحصل من آثارها الموجودة في العالم، ولا خص الأفعال المأمور بها بما لأجله كانت حسنة مأمورا بها، ولا المنهي عنها بما لأجله كانت سيئات منهيا عنها، وإنه ليس لشيء من القوى والقدر التي في الحيوان والإنسان وغيره وفي النبات والمعادن والعناصر الأربعة تأثير في شيء، بل لا فرق بين الماء والنار، تخلق الحرارة عند ملاقاتها لا بقوة فيها، [ ص: 222 ] والماء يخلق الري عنده لا بسبب عذوبة وقوة فيه، وأمثال ذلك فهذا مخالف لنصوص القرآن والسنة وإجماع سلف الأمة.
ولم يقل هذا القول أحد من سلف الأمة وأئمتها، وأول من قال هذا القول في الإسلام الذي أجمع الأمة على ضلالته، فهو أول من أنكر الأسباب والطبائع، كما أنه الجهم بن صفوان وغير ذلك، ونصوص الكتاب والسنة وكلام السلف في إبطال هذا الأصل كثيرة جدا، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح أول من ظهر عنه القول بنفي الصفات وخلق كلام الله وإنكار رؤيته لأشج عبد القيس: وقال تعالى: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة"، فقال: أخلقين جبلت عليهما أم تخلقت بهما؟ فقال: "بل جبلت عليهما"، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب. إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا .
ومما يدل على ذلك قوله تعالى في قصة إبراهيم: قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ، فسلب النار طبيعة الحرارة التي بها تسخن، وجعلها بردا وسلاما، ولو كان ما يحصل عند ملاقاتها لا أثر لها فيه لم يحتج إلى ذلك، بل كان يكفي أن لا يخلق الأثر عند الملاقاة. بل قوله "بردا وسلاما" يقضي أنه جعل فيها ما توجب برودته [ ص: 223 ] وسلامته. والأدلة في ذلك كثيرة تخبر أنه يخلق الأسباب والحكم، كقوله عز وجل: وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ، وقال تعالى: ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد الآية . وقال تعالى: والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس الآية . وقال تعالى: وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا ... ، فذكر أن الرياح تقل السحاب أي تحمله، فجعل هذا الجماد فاعلا بطبعه.
وقال تعالى: والذاريات ذروا الآيات . وقال: وأخرجت الأرض أثقالها ، وقال: وترى الأرض هامدة الآية . وقال تعالى: انظروا إلى ثمره إذا أثمر . وقال تعالى كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا . وقال تعالى: وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم ، فوصف السرابيل بأنها تقي الحر والبأس. وقال تعالى: أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ، [ ص: 224 ] أخبر أنه أنزل الماء من المزن، وهو السحاب، كما أخبر أنه أنزله من المعصرات، وهو المراد بقوله: وأنزلنا من السماء في مواضع أخر ، وبين أنه لو شاء لجعله أجاجا، كما قال تعالى: وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج ، وقال تعالى: وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ، فبين أن كلا من البحرين جعل فيه صفة قائمة به، عذوبة هذا وملوحة هذا، وامتن على عباده بذلك، وأنه لو شاء لجعل العذب أجاجا، فدل على أن المياه المشروبة مخصوصة بصفة جعلها بها تشرب، وأنه لو جعله أجاجا لما شرب، وبين أن أحد الجسمين يختصه بصفة يحصل بها الانتفاع ويختص أحدهما بقوة يكون بها الفعل.
وقال تعالى: وجعلنا سراجا وهاجا وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ، وقال تعالى: وأنزلنا من السماء ماء طهورا وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وقال تعالى: هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين ، وقال تعالى: فأنبتنا فيها من كل زوج كريم أي صنف كريم، وهو الكثير المنفعة. [ ص: 225 ]
فمن قال من أهل الجدل والكلام: إنه يحدث النبات عند المطر لا به، فقد خالف نص الرسول، مع مخالفته صريح المعقول، وكذلك في سائر ما يقوله، كقولهم: يحدث الشبع عند الأكل لا به، والزهوق عند القتل لا به، والهدى عند سماع القرآن لا به، فهذا النفي مخالف للكتاب والسنة والميزان للشرع، قال تعالى: يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، وقال تعالى: يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا ، وقال تعالى: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ، وقال: أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا .
وكما أخبر أنه يخلق الأشياء من موادها، في مثل قوله: وجعلنا من الماء كل شيء حي ، وقوله تعالى: خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار ، وقال: والله أنبتكم من الأرض نباتا ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجا .
وأخبر سبحانه أنه قائم بالقسط وأنه لا يظلم الناس شيئا، فلا يضع شيئا في غير موضع، ولا يسوي بين مختلفين ولا يفرق بين متماثلين، فقال تعالى: أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية. وقال تعالى: أم نجعل الذين آمنوا [ ص: 226 ] وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ، وقال تعالى: أفنجعل المسلمين كالمجرمين الآية. وقال تعالى: وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور الآية. وقال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل الآية. فهو مناسب لها مصلح لفسادها، ليس معنى كونه معروفا أنه مأمور به، إذ هذا قدر مشترك بينه وبين كل آمر حتى الشيطان، فإنه يأمر بما يأمر به، فعلم أن ما يأمر به الرسول مختص بأنه معروف، وما ينهى عنه مختص بأنه منكر، وما يحله مختص بأنه طيب، وما يحرمه مختص بأنه خبيث. ومثل هذا كثير في القرآن وفي غيره من الكتب كالتوراة والإنجيل والزبور. والله سبحانه أعلم. والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين وسلم تسليما. فدل في هذه الآية وغيرها على أن ما أمرهم به هو معروف في نفسه تعرفه القلوب،