[ ص: 33 ] ضابط التأويل [ ص: 34 ] [ ص: 35 ] بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر و [أعن]
قال الشيخ الإمام العالم العامل شيخ الإسلام تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه ونور ضريحه :
الحمد لله رب العالمين ، مالك يوم الدين ، والحمد لله الذي بعث إلينا رسولا يتلو علينا آياته و [يزكينا] ، ويعلمنا الكتاب والحكمة ، وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين . إنه أكمل لنا [ديننا] ، وأتم علينا نعمته ، ورضي لنا الإسلام دينا ، وأخبر أن الدين عنده الإسلام هذا الدين ، فمن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ، وهو في الآخرة من الخاسرين . وجعل الكتاب الذي أنزله بيانا للناس وهدى وموعظة [للمتقين] ، وأخبر أنه أنزله بلسان عربي مبين ، كما أخبر أنه ليس على الرسول [إلا البلاغ المبين] ، وذكر أن آياته أحكمت ثم فصلت ، إذ الإحكام والتفصيل يجمع خبرا وطلبا ، وكمال القصد واللفظ الذي تتم به وتتبين الأشياء ، من لدن حكيم يحصل بحكمته الإحكام ، خبير يفصل الخطاب للمخاطبين . [فليس] كل من هدي للحق يسدد الخطاب ، كما أنه ليس كل من سدد الخطاب يبلغ [ ص: 36 ] إلى أفهام المستمعين بالإفصاح البليغ يكون قد هدي للحق . ولهذا : "يا لعلي بن أبي طالب سل الهدى والسداد ، [واذكر بالهدى] هدايتك الطريق ، وبالسداد تسديدك [السهم] " علي! إلى كمال العلم والقصد والقول والعمل . فهذا الدعاء المبين وما وصف سبحانه كتابه ورسوله من البيان والتفصيل والهدى والتبليغ والإفتاء والموعظة والشفاء والقصص والشهادة والرحمة ، كقوله سبحانه وتعالى : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنزلنا إليك الذكر .
ثم إنه سبحانه دعا إلى التفكر والتذكر والتأمل] والفقه لهذا البيان عباده المبلغين ، وجعل رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو [المبين] لما حصل مجملا أو مشكلا على المكلفين ، وثبت بالأدلة المتعددة ضبط علماء أصحابه لمعانيه كضبطهم لحروفه المنقطعة القرين ، وكانوا يلقون ما تلقوه عن رسولهم - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابهم من التابعين من الكتاب ظهرا وبطنا ومن الحكمة صورة ومعنى مشتركين دون مختصين ، فيشتركون كلهم أو أكثرهم في كثير من ذلك أو أكثر ، ويختص بعضهم ببعض ذلك وكل على ما يأثره أمين ، شائع بينهم معرفة أصول دينهم وعمل ملتهم جملة وتفصيلا ليسوا فيها مختلفين ، وإن كان قد يمتاز بعضهم من زيادة العلم ببعض ذلك بما ليس عند الباقين ، واستفاضت النقول عنهم أنهم تعلموا من نبيهم - صلى الله عليه وسلم - جميع ما يحتاجون إليه فيصيرون من الكاملين وما يصيرون به من الأكملين . [ ص: 37 ]
ولهذا كانت البدع محرمة في وقت جماعتهم ، لعدم مقتضيها أو لوجود منافيها عن هذا الدين ، ثم نبغت البدع وتعدت من الصغير إلى الكبير على قضاء سبق من الكتاب المبين ، فلما قتل الخليفة المظلوم الشهيد وافترقت الأمة بعده على خلافة الخلفاء الراشدين نبغ في آخر خلافة النبوة بدعتان متقابلتان تقابل المغضوب عليهم والضالين : الخوارج يكفرون الخليفتين ومن تولاهما ، يحلون دماء أهل القبلة ، ويفعلون بأهل الإيمان فعل اليهود بالنبيين; والروافض يغلون فيمن يستحق الولاية والمحبة ، فيطرونه إطراء النصارى ، حتى وصفوا البشر بالإلهية ، وألحقوا الأئمة بالمرسلين . فتولى أمير المؤمنين عقوبة الطائفتين : بقتال الطائفة الممتنعة من المارقين ، وقتل المقدور عليه من الغالين ، والتعزير بجلد المفترين .
ثم لما صارت الجماعة على الأقذاء ، وانصرف عن ضبط دقيق الدين وعناية الأمر في أواخر عصر الصاحبين حدثت أيضا بدعتان متقابلتان : القدرية والمرجئة على منهاج الأولين ، هؤلاء عظموا أمر المعاصي ، حتى أوجبوا نفوذ الوعيد بجميع أهل الكبائر أو جميع المذنبين ، ومنعوا شفاعة الشفعاء ورحمة أرحم الراحمين ، وأعظموا أن يكون الله قدرها أو شاءها أو يسرها ، وسلبوا الإيمان بالكلية لمن اتصف بها من المسلمين . وهؤلاء استخفوا بأمر الواجبات والمحرمات ، حتى استبعد بعضهم نفوذ الوعيد على الكبائر الموبقات ، وزعموا أن ذلك نوع من التخشين . وربما احتجوا لنفوسهم بالقدر السابق ، وتشبثوا بكونهم مجبورين ، وسوى عامتهم في الإيمان والدين بين الأبرار والفجار والصالحين والفاسقين . بدعة