[ ص: 251 ]
تفسير أول سورة العنكبوت [ ص: 252 ] [ ص: 253 ] قال شيخ الإسلام بحر العلوم مفتي الفرق أبو العباس أحمد بن تيمية رحمه الله:
فصل
قال الله تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين .
وقال الله تعالى: أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب . وقال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله: من كفر بالله من بعد إيمانه قال بعد ذلك: [ ص: 254 ]
ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم .
فمن قال "آمنا" امتحنه الرب عز وجل وابتلاه، وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكاذب، ومن لم يقل "آمنا" فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته، فإن أحدا لن يعجز الله تعالى. فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم: آمنا، وإما أن لا يقول: آمنا، بل يستمر على عمل السيئات.
هذه سنته تعالى، يرسل الرسل إلى الخلق، فيكذبهم الناس ويؤذونهم، قال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن ، وقال تعالى: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون ، وقال تعالى: ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك .
ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه، فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم عوقب، فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم. فلا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت، لكن والكافر تحصل له النعمة ابتداء، ثم يصير في الألم. المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة.
سأل رجل فقال: يا الشافعي أبا عبد الله! لا يمكن حتى يبتلى، الشافعي: فإن الله ابتلى [ ص: 255 ] أيما أفضل للرجل أن يمكن أو يبتلى؟ فقال نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمدا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم ألبتة.
وهذا أصل عظيم، فينبغي للعاقل أن يعرفه، وهذا يحصل لكل أحد، فإن الإنسان مدني الطبع، لا بد له أن يعيش مع الناس، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوافقهم عليها، وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم.
ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئا كثيرا، كقوم يريدون الفواحش والظلم، ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك، فهم مرتكبون بعض ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون . وهم في مكان مشترك، كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم، وهم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك، أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم، فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت، فإن وافقوهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء، ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافونه ابتداء، كمن يطلب منه شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل، إما في الخبر، وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم، فإن لم يجبهم آذوه وعادوه، وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه، وإلا عذب بغيرهم. [ ص: 256 ]
فالواجب ما في حديث الذي بعثت به إلى عائشة ويروى موقوفا ومرفوعا : معاوية، "من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس -وفي لفظ: رضي الله عنه وأرضى عنه الناس-، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا -وفي لفظ: عاد حامده من الناس ذاما-".
وهذا يجرى فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة، وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم. فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم، مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاتها.