إلى ابن ابن عمه عز الدين عبد العزيز بن عبد اللطيف
بسبب فتح جبل كسروان [ ص: 472 ] رسالة أخرى بسبب جبل كسروان أيضا
إلى ابن ابن عمه عز الدين عبد العزيز بن عبد اللطيف ابن تيمية، وهو بدمشق في أول سنة خمس وسبعمئة
قال رحمه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم
من أحمد ابن تيمية إلى الشيخ الإمام عز الدين وسائر من يصل إليه هذا الكتاب من الإخوان والأصحاب، جعلهم الله من أوليائه المتقين، وحزبه المفلحين، وجنده الغالبين، وعباده الصالحين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فإنا نحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، وهو للحمد أهل، وهو على كل شيء قدير، ونسأله أن يصلي على خاتم النبيين، وسيد ولد آدم ورسول الله [ ص: 474 ] إلى جميع الثقلين، محمد عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما.
أما بعد، فقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وحقق من قوله: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا [الفتح: 28] ما أقر به عيون المؤمنين، وأعز به دينه الذي هو خير دين، وأذل به الكفار والمنافقين، ونصر به عباده المعتصمين بحبله المتين على المارقين من دينه، الخارجين عن شريعته وسبيله، المنسلخين من سنة رسوله، المفارقين للسنة والجماعة، المعتاضين بشتات الجاهلية عن عصمة الطاعة، المستبدلين قتال أهل الإسلام بقتال الكفار، الموالين على معاداة أهل الإسلام للفرنج والتتار، المقدمين للذين كفروا وأهل الكتاب، على خواص أمة محمد المتبعين لما جاء به من السنة والكتاب، المكفرين لجمهور المسلمين كفرا أغلظ من كفر سائر الكفار، المنجسين لهم ولما عندهم من المائعات التي لامستها الأبشار، المرجحين لشعر أهل الإفك والبهتان، على أحاديث الرسول التي اتفق على قبولها أهل العرفان، المستحلين لدماء المسلمين وأموالهم، المتعبدين بقتلهم وقتالهم، المنكرين أن يراه المؤمنون بأبصارهم في جناته، المكذبين بحقيقة كلماته وآياته، المشبهين له بالمعدوم والموات، في أنه لم يتكلم بكلام قائم به وإنما خلقه في المصنوعات، الجاحدين لأن يكون الله فوق السماوات، المكذبين بحقائق أسماء الله وصفاته، [ ص: 475 ] الزاعمين أنه لا يقدر أن يهدي ضالا ولا يضل مهتديا ولا يقلب قلوب عباده، بل يزعمون أنه يكون في ملكه ما لا يشاؤه ويشاء ما لا يكون، وهو عاجز عما عليه العباد قادرون، المعادين لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، الطاعنين في أزواجه وأهل قرابته، السافكين لدماء عترته وأمته في القديم والحديث، المعاونين عليهم لكل عدو خبيث، الذين تعجز القلوب والألسنة عن الإدراك والصفة لمخازيهم، وما أحدثوا في هذه الأمة من مساويهم. المنكرين لقضائه وقدره في بلاده،
لا سيما هؤلاء المعتصمين بالجبال، التي اتفق على صعوبتها أصناف الرجال؛ لاشتمالها من القلاع والأوعار، والأودية والأنهار، وأصناف الملتف من الأشجار، والأماكن المعطشة الوعرة العالية، وما لم تسلكه الخيل في العصر الخالية، وما لا تضبط الصفات من مباعث الطرقات، ما رجح أهل الخبرة صعوبته على ما رأوه من الجبال الشامخات.
وكانوا كما قال الله تعالى في من ضاهوه في كثير من الوجوه: ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين [الحشر: 2].
وكانت قلوبهم قوية بهذه الأماكن المضرة، لا سيما وقد غزاهم [ ص: 476 ] الناس كما ذكر أهل الخبرة أكثر من عشرين مرة، ولا يرجعون عنهم إلا بالخيبة والخسار، حتى قصدهم المسلمون والإفرنج جميعا في سالف الأعصار، فقتلوا من الفريقين من بقيت عظامهم عندهم في الديار.
وقد سفكوا من دماء الأمة المحمدية من لا يحصي عدده إلا الله، وفعلوا فيهم ما لم يفعله أعظم الناس معاداة، وأخذوا من الأموال ما لا يقوم ببعضه أثمن ما في الجبال، واستحلوا من الفروج وقتل الأطفال، وفرط الانتقام والاستحلال، ما يتبين به أنهم شر من التتار بطبقات وأطوار.
فأعز الله دينه وجنده بفتح بلادهم، وإجلائهم منها بالذل والصغار، ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [الحشر: 3 – 4].
وذلك بعد أن قتل الله منهم من لم يحص عدده إلى الآن، وذل جماهيرهم وطلبوا الدخول في الأمان، فأومنوا على أن ينزلوا إلى بلاد الإسلام، ويقوموا بالواجبات التي تجب على الأنام، ويلتزموا حكم الله ورسوله، الشاهد به كتابه وسنة رسوله، ويكونوا من المسلمين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، ومن خرج عن ذلك أو عن شيء منه فقد برئت منه الذمة [ ص: 477 ] التي حصلت من أهل السنة إليهم.
وفرقوا في البلاد بين أهل السنة والجماعة، بحيث لا يكون لأهل البدعة اجتماع على خلاف الطاعة، وخربت وحرقت مساكنهم والديار، وقطعت زروعهم والأشجار، من العنب الكثير، والتوت الغزير، والجوز واللوز، وغير ذلك، وكان ذلك بإذن الله من أبلغ المسالك؛ آيسهم من سكنى الجبال، وأوجب استئمان من كان تخلف منهم راجيا لحسن الحال، وأخزى الله بذلك الفاسقين، وقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
واتبع في ذلك ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني النضير؛ إذ كان بين هؤلاء وبينهم شبه كثير، حيث يقول الله تعالى: ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين [الحشر: 5]، ولهذا ذكر الله في هذه السورة ما يبين ما هم به من المارقين.
وقد ثبت في الصحاح أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير، وحرق.
وفي ذلك يقول حسان بن ثابت:
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
وسطر هذا الكتاب ليلة الاثنين، سلخ المحرم وغرة صفر، وعامة بلدهم [ ص: 478 ] قد دثر، واستأمن عامة من فيه من البشر، وخرب الجرد والكسروان، ودخل في خبر كان، وأظهر الله من أعلام الإسلام ما كان مستورا، وطوى من ألوية الضلال ما كان منشورا، وأورث الله المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم يطؤوها، وكان الله على كل شيء قديرا.وكان هذا فتحا أقام الله به عمود الدين، وقمع به طوائف أهل البدع المنافقين، من جميع الأجناس والأصناف، في جميع النواحي والأطراف، سير فيه بسيرة الخلفاء الراشدين، الثابتة بالكتاب وسنة سيد المرسلين.
والحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون [الصف: 9]، والله تعالى يوزعنا وسائر المؤمنين شكر هذه النعمة التي لم تبلغها الظنون، ولم يطمع بها الطامعون، بل ظن المنافقون أن لن ينقلب المؤمنون إلى أهليهم أبدا، وزين ذلك في قلوبهم، وظنوا ظن السوء، وكانوا قوما بورا.
ففتح الله فتحا مبينا، ونصر نصرا عزيزا، ويسر من الأمور ما كان عسيرا، وفتح من أبواب هدايته ونصره ورزقه ما يجل أن يقال: كان كثيرا.
ويصلح لهم أمر الدنيا والدين. والله هو المسؤول أن يتم النعمة على عباده المؤمنين،
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعلى جميع الإخوان والأصحاب [ ص: 479 ] واحدا واحدا خصوصا، ووفد الله القادمين من بيت الله فالسلام عليهم جميعهم واحدا واحدا ورحمة الله وبركاته.
والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما كثيرا.
كتبت هذا الكتاب عجلان بالليل؛ لكون حامله أراد السفر بليل.
* * *