وأعلى من هؤلاء والجهاد عليه نعمة، بل يرى هذا فيه من المضار ما يوجب تركه. من يرى النعمة في الإيمان والعمل الصالح، لكن لا يرى الأمر بذلك
والذين يرون هذا نعمة منهم من لا يراه نعمة إلا مع الغنيمة والسلامة، فمتى كان غالبا لعدوه، غانما لماله، عد ذلك نعمة، وإن جرح، أو قتل بعض أولاده، أو أخذ ماله، عد ذلك مصيبة لا نعمة. [ ص: 395 ]
وهكذا في جهاد الكفار والمنافقين، فمن أوذي، أو هضم حقه، أو ضرب، أو حبس، أو كذب عليه عند الأئمة أو الأمة، وقيل: هذا فاجر أو جاهل، لم يكن هذا نعمة عند هؤلاء؛ لأن هذا مما يؤلم النفس. فمن الناس من لا يعد جهاده نعمة إلا إذا كانت الكلمة مطاعة، والخصم مقهورا،
وحجة هؤلاء كلهم أن النعمة ما يتنعم به العبد، وهذه الأمور مؤلمة للنفوس، فلا تكون من النعم، بل من المصائب.
ولا ريب أنها من المصائب باعتبار ما يحصل من الألم، ولهذا أمر بالصبر عليها، لكن لا منافاة بين كون الشيء مصيبة باعتبار ونعمة باعتبار؛ فباعتبار ما حصل به من الأذى هو مصيبة، وباعتبار ما يحصل به من الرحمة نعمة.
وهذا لأنه إذا قيل: إن هذا يكفر به الخطايا، ويؤجر عليها، ويؤجر على الصبر عليها، كانت النعمة هذه الأمور التي تحصل عن هذه، فيكون هذا بمنزلة شرب المريض الدواء الكريه، فهو مصيبة باعتبار مرارته، وهو نعمة باعتبار إزالته للمرض الذي هو أشد ضررا فيه، وأدنى الضررين إذا زال أعظمهما كان نعمة، لا سيما إذا حصل مع ذلك خير آخر.