الاستعاذة: طلب العوذ، وهو الامتناع بالحفظ والعصمة، والمراد هنا في مذهب القراء، الاستعاذة قبل القراءة على اختلافه بالنقص والزيادة خبر بمعنى الدعاء. أي: (اللهم أعذني من البلاء وشر الأعداء)، ولفظ الاستعاذة بإجماع العلماء. والاستعاذة ليست [ ص: 41 ] من القرآن
1 - إذا ما أردت الدهر تقرأ فاستعذ جهارا من الشيطان بالله مسجلا 2 - على ما أتى في النحل يسرا وإن تزد
لربك تنزيها فلست مجهلا
(أردت): قصدت، (الدهر): ظرف الزمان، (الجهار): الإعلان ضد الإخفاء، مصدر جاهر إذا أعلن جهارا، كجاهد جهادا. وهو صفة مصدر محذوف، والتقدير: تعوذا جهارا أي ذا جهار. (ومسجلا) اسم مفعول أسجل بمعنى أطلق، (فمسجلا): بمعنى مطلقا، وهو أيضا صفة المصدر المحذوف أي: تعوذا جهارا مطلقا. وقوله: (على ما أتى): جار ومجرور متعلق بمحذوف وصف آخر للمصدر المحذوف، أي: تعوذا كائنا على اللفظ الذي ورد في سورة النحل، و(اليسر): السهل، وهو مصدر منصوب في موضع الحال من فاعل أتى، أي: حال كون هذا اللفظ يسرا، أي: ذا يسر وسهولة. و(التنزيه): التقديس. و(المجهل): المنسوب للجهل اسم مفعول.
والمعنى: إذا أردت قراءة القرآن في أي زمن من الأزمان، ولأي قارئ من القراء، ومن أي جزء من أجزاء القرآن، سواء كان ذلك أول السورة أو أثناءها فتعوذ في ابتداء قراءتك تعوذا مجهورا به مطابقا للفظ الوارد في سورة النحل، حال كون هذا اللفظ ميسرا في النطق سهلا على اللسان لقلة كلماته وحروفه، بأن تقول في ابتداء قراءتك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، من غير أن تزيد على هذا اللفظ شيئا، وإن شئت زيادة التعظيم لربك بوصف كمال ونعت جلال، فلست منسوبا إلى الجهل، لأنك أتيت بما يفيد كمال تنزيه الله عز وجل وتبرئته من جميع النقائص، كأن تقول: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، أو أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وهكذا. وقد نبه الناظم بقوله: (إذا ما أردت إلخ)، إلا أن قوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن) معناه: فإذا أردت قراءة القرآن، فاستعذ، فيكون في الآية مجاز مرسل من إطلاق اسم المسبب وإرادة اسم السبب كقوله تعالى: إذا قمتم إلى الصلاة أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة.
[ ص: 42 ]
3 - وقد ذكروا لفظ الرسول فلم يزد ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا
(الواو): في ذكروا لعلماء القرآن والمحدثين. ولفظ (الرسول): أي تعوذه أو استعاذته. و(مجملا): مصدر ميمي المراد به الحدث أي إجمالا.
والمعنى: أن جماعة من القراء والمحدثين ذكروا تعوذ الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يزد الرسول شيئا على اللفظ الوارد في سورة النحل، فمن ذلك ما روي أن قرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا ابن مسعود ابن أم عبد، قل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وروى عن نافع، جبير بن مطعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). وهذان الحديثان ضعيفان، قال أبو شامة: والأول لا أصل له في كتب الحديث، والثاني أخرجه ولكن بغير هذه العبارة. وليس أدل على ضعف الحديثين من ورود أحاديث أخر أصح سندا منهما تعارضهما: منها ما أخرجه أبو داود، أبو داود من حديث والترمذي قال: أبي سعيد الخدري: قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول: (أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه)، هو أشهر حديث في هذا الباب. وفي صحيح الترمذي: ابن خزيمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أشار الناظم إلى ضعف الحديثين السابقين وأمثالهما بقوله: (ولو صح هذا النقل لم يبق مجملا)، والمراد بالإجمال: الإطلاق، أي لو صح نقل ترك الزيادة لذهب إجمال الآية، واتضح معناها وتعين لفظها، فلا يجوز العدول عنه. أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم، وهمزه ونفخه ونفثه).
المعنى: لو كانت الأحاديث الدالة على ترك الزيادة على آية النحل ثابتة صحيحة السند لم تبق إجمالا في الآية، بل تكون الآية حينئذ واضحة المعنى، بينة المراد متعينا لفظها عند التعوذ فيقال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بلا زيادة عليه أو نقص عنه، ولكن هذه الأحاديث الدالة على ترك الزيادة ضعيفة معارضة بأصح منها سندا، فحينئذ تبقى الآية على إجمالها وإطلاقها، فلا يتقيد القارئ بلفظها، بل يجوز له النقص عنه بأن [ ص: 43 ] يقول: أعوذ بالله من الشيطان، والزيادة عليه بأن يقول: أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم، أو نحو ذلك، ويعتبر القارئ عندئذ ممتثلا للأمر في الآية الكريمة، سواء نقص عنها لفظا أو زاد عليها لفظا، أو اثنين، أو ثلاثة، ومما ينبغي التنبه له: أن الأمر في الآية الكريمة للندب على ما ذهب إليه جماهير العلماء من السلف والخلف.
4 - وفيه مقال في الأصول فروعه فلا تعد منها باسقا ومظللا
ضمير (فيه): يعود على التعوذ. و(مقال): مصدر ميمي، والمراد به القول. و(الفروع): جمع فرع وهو الغصن. و(الباسق): الشجر الطويل المرتفع. و(المظلل): ما له ظل لكثرة ورقه.
والمعنى: أن في التعوذ قولا كثيرا، وكلاما طويل الذيل، ممتد النسق، انتشرت فروعه في أصول الفقه، وأصول الحديث، وأصول القراءات. فأما أصول الفقه: فيبحث فيها عن التعوذ من حيث إن الأمر به في الآية هل هو للوجوب أو للندب؟ وهل الآية واضحة الدلالة فيتعين لفظها أم مجملة فيصلح كل لفظ يدل على التعوذ؟ وأما أصول الحديث: فيبحث فيها عن درجة الأحاديث الدالة على التعوذ، وعن سندها وحال رواتها. وأما أصول القراءات والمراد بها أمهات الكتب المؤلفة في هذا الشأن (كالكامل) للإمام الهذلي، و(الإيضاح) للأهوازي، و(جامع البيان) فيبحث فيها عن التعوذ من حيث الجهر به والإخفاء، ومن حيث الوقف عليه أو وصله بما بعده. وقوله: (فلا تعد منها باسقا ومظللا)، معناه: فارجع إلى هذه الأصول وأمعن النظر فيها ولا تتجاوز منها القول الذي تعضده الأدلة، وتؤازره البراهين. فكنى بالباسق والمقال عن هذا القول. للداني
5 - وإخفاؤه فصل أباه وعاتنا وكم من فتى كالمهدوي فيه أعملا
(الإخفاء): الإسرار، وضمير (وإخفاؤه): يعود على التعوذ، و(أبى الشيء): تجنبه وامتنع من فعله. و(الوعاة) جمع واع كقضاة جمع قاض، وهو الحافظ المدقق، وقد جرى كثير من شراح القصيدة على أن الفاء رمز والألف رمز لحمزة، وعلى هذا يكون المعنى: أن لنافع. حمزة كانا يخفيان التعوذ عند قراءتهما، وممن أخذ به ونافعا مطلقا في جميع القرآن: الإمام لحمزة أبو العباس أحمد بن عمار المهدوي المقرئ المفسر المتوفى سنة [ ص: 44 ] ثلاثين وأربعمائة، فإنه أعمل فكره في تصحيح الإخفاء، وتقريره، والقراءة، والإقراء به، وروى عن خلف، عن سليم، (أنه كان يجهر بالتعوذ في أول الفاتحة ويخفيه في سائر القرآن). وروى حمزة خلاد، عن (أن سليم كان يخير القارئ بين حمزة وروى الجهر والإخفاء في التعوذ). المسيبي، عن (أنه كان يخفي التعوذ في جميع القرآن). وعلى هذا يكون قول الناظم: (وإخفاؤه) فصل في قوة الاستثناء من عموم قوله: (فاستعذ جهارا من الشيطان بالله مسجلا) فإنه بعمومه يدل على الأمر بالتعوذ جهارا في جميع الأوقات، وفي سائر القرآن، ولجميع القراء. ولكن الصحيح: أن لا رمز في البيت، وأن قوله: (فصل): معناه: فرق، وأنه بيان لحكمة إخفاء التعوذ، وهو الفرق بين القرآن وغيره، أو معناه: أن إخفاء التعوذ حكم من أحكامه. وكيفية من كيفياته، فكأنه قال: إخفاء التعوذ فرق بين القرآن وغيره، أو كيفية من كيفياته، رده أي الإخفاء علماؤنا الحفاظ الأثبات ولم يأخذوا به، بل أخذوا بالجهر به في جميع القرآن، ولكل القراء، كما أفاد ذلك عموم قوله: (فاستعذ جهارا من الشيطان بالله مسجلا) ذلك أن الجهر بالتعوذ إظهار لشعار القراءة كالجهر بالتلبية وتكبيرات العيد. ومن فوائد الجهر به: أن السامع للقراءة يتمكن من الإصغاء لها من أولها، فلا يفوته شيء منها، وإذا أخفى القارئ التعوذ فلا يعلم السامع للقراءة إلا بعد أن يفوته شيء منها. وهذا المعنى هو الفارق بين القراءة في الصلاة وخارجها، فإن المستحب للقارئ في الصلاة إخفاء التعوذ، وإن كان إماما، وفي صلاة جهرية، لأن المأموم منصت في الصلاة من أول الإحرام فلا يفوته شيء من قراءة إمامه. نافع
وفصل الخطاب في هذا المقام أن يقال: إن التعوذ يستحب إخفاؤه في مواطن، والجهر به في مواطن أخرى، فمواطن الإخفاء:
(1 إذا كان القارئ يقرأ سرا، سواء كان منفردا أم في مجلس.
(2 إذا كان خاليا سواء قرأ سرا أم جهرا.
(3 إذا كان في الصلاة، سواء كانت الصلاة سرية أم جهرية، وسواء كان منفردا أم مأموما أو إماما.
(4 إذا كان يقرأ وسط جماعة يتدارسون القرآن، كأن يكون في مقرأة ولم يكن هو المبتدئ بالقراءة، وما عدا هذه المواطن يستحب الجهر بالتعوذ فيها.
[ ص: 45 ] (تتمة) لو قطع القارئ قراءته لطارئ قهري كعطاس، أو تنحنح، أو كلام يتعلق بمصلحة القراءة، كأن شك في شيء في القراءة، وسأل من بجواره ليتثبت، فإنه لا يعيد التعوذ. أما لو قطعها إعراضا عنها، أو لكلام لا تعلق له بها، ولو ردا لسلام، فإنه يستأنف التعوذ.