الدعاء لم يكن لسائر الأمم
وفتح لك باب الدعاء ما لم يكن لسائر الأمم يقول الله [ ص: 322 ] تعالى ادعوني أستجب لكم وإنما كانت للأنبياء خاصة دونهم حتى إذا نابهم نائبة فزعوا إلى الأنبياء ليدعوا لهم فلذلك كثرت أنبياؤهم لحاجتهم إلى ذلك حتى كان لكل محلة نبي ونبيان وثلاثة وأربعة وأكثر لحاجة العبد في ذلك الموقف العظيم
قال له ربه أعطيتك ثلاثة من الأمراء ما من أمير إلا وله سلطان وجند ونفاذ أمر أفما كان لأمرائك من العدة والقوة ما يغلبون هواك بلى قد كان ولكنك قد ملت إلى هواك ووضعت يدك في يده حتى أسرك وضيعت أمرا لي والمحاربة للنفس مع أمرائي وقد أمرتك بالمجاهدة وقلت وجاهدوا في الله حق جهاده وأعطيتك الأمراء مع الجنود لمجاهدة نفسك وهواك فملت إلى [ ص: 323 ] النفس والهوى وأعرضت عن الأمراء والجنود وألقيت نفسك أسيرا بين يدي الهوى حتى وضعك في يد العدو وفضحك 93 فخرجت إلى هذا المجمع بين يدي الرحمن والأنبياء والأولياء والملائكة مع هذه الأعمال القبيحة والفضائح اللسان لسان الأولياء والأعمال أعمال الأعداء أف لعبد أحمق وزبون أبله أين كان علمك حتى تبلهت وأين كان عقلك حتى تحمقت وأين كان ذهنك حتى أعرضت عن الله تعالى وأقبلت على نفسك وتصاممت عن أدب الله تعالى وكلامه ومواعظه وأصغيت إلى وساوس شيطانك اتهمت مصالح الله وانخدعت لعدوك وعدك عدوك الفقر وأمرك بالفحشاء والله وعدك مغفرة منه وفضلا فآثرت وعده وأمره على وعد ربك ومغفرته وفضله وإنما أوتي العبد هذا من قبل رق النفس لأن النفس إذا ملكها الهوى صارت رقيقا للهوى مملوكة ذليلة تنقاد للهوى حيثما قادها حتى يهوي بها في النار التي منها خرج إلى النفس
[ ص: 324 ] فالهوى هو نفس النار فإذا تنفست فإنما لها لهبان ونفسان نفس من السموم ونفس من الزمهرير فكلاهما في الهوى برد الزمهرير وحرارة السموم فإذا خلص إلى القلب برد زمهرير الهوى خمدت حرارة حياة القلب فإذا ذهبت الحرارة مات القلب وجمد الدم
ألا ترى إذا خرج الروح جمد الدم ثم النفس وبقي دم العروق على حاله وتلك دماء الطبيعة
في قلب المؤمن حياتان
ففي قلب المؤمن حياتان حياة الريح وحياة المعرفة وفيهما الحرارة فإذا جاء الهوى ببرده خمدت الحرارة التي في القلب فبرد القلب عن أمر الله تعالى وعن دار الآخرة وجاء العدو بزينة الدنيا على أثر الدنيا حتى سبى قلبه بتلك الزينة ويغويه عن أمر الله تعالى والغي حول القلب عن الرشد وبالرشد لازمت المعرفة القلب فهي ملازمته أبدا وبالرشد ثبات المعرفة والغي ضد الرشد
الرشد سر الله في قلب المؤمن
قال الله تبارك وتعالى في تنزيله حيث بعث رسوله قد تبين [ ص: 325 ] الرشد من الغي والرشد سر الله تعالى في قلوب المؤمنين لا يطلع عليه إلا الأنبياء عليهم السلام .والأولياء فمن دونهم عجزوا عن معرفة كنهه فالرق برد القلب وخموده عن حرارة حياة القلب بالله تعالى وموت القلب عن الله تعالى وبرد النفس وخمودها عن التحلل للأركان في أمر الله تعالى فظهر على القلب الجمود والعجز وعلى النفس القهر وذهاب القوة والكسل
فكل من ملكه هواه فقلبه مقهور ذليل لا يعتز بأمر الله ولا يهتز له لأن أمر الله تعالى ملكه وسلطانه وزينته وبهاؤه وحلاوته فإذا وافى قلبه مأسورا وصدرا مظلما بأشغال الدنيا قد خربه الهوى وصير صدره مروجا وغياضا وآجاما يخوض فيها الخنازير وتتردد فيها الذئاب والسباع والأسد والثعالب لم يبق هناك للأمير سلطان فإذا لم يكن للأمير مملكة ولا سلطان فلم تبرز زينته وبهاؤه ولم توجد حلاوته فلذلك لا يجد صاحب الهوى طعم أمر الله تعالى وحلاوته ولا يرى بهاءه وسناءه وزينته فإذا عمل ذلك الأمر كان كالمكره الذي لا يجد بدا أو كالذي يجر برجليه على موائد النعم وبساتين النزهة كما تجر جيف الميتة لترمى ولا يجد طعم ما حل بالموائد ولا يشم رياحين البساتين ولا يلتذ بنزهتها
[ ص: 326 ] ومن خلص من رق الهوى فيوسم سمة الأحرار قعد على موائد النعم ونزهة السنن فكانت الأعمال موائد غراسه والذكر بساتينه ونزهته فالرق يدنس القلب ويقهره فإذا صار حرا تطهر القلب من الأدناس وخرج من قهر الهوى فاعتز بالله واستغنى بالله