مثل رجل ينفخ في كير له فعلى قدر قوة المنفخ وقوة الريح التي فيه تصل النفخة إلى تلك الجمرات حتى تتوقد تلك النار وتحمي جدرانه من حول تلك النار ويتلظى ويضيء ذلك البيت ويذوب ما في الكور ذهبا كان أو فضة أو نحاسا أو حديدا حتى يزول عنه خبثه وتبقى صفوته [ ص: 236 ] فإن كانت المنفخة صغيرة لم يكن لنفخه قوة تؤدي إلى الجمرة فالجمرة بحالها مع الرماد والخمود وإن كانت المنفخة كبيرة ولكن فيها خروق فكلما مدها حتى تمتلئ من الريح فإذا عصرها خرجت الريح من تلك الخروق ولم يتأد إلى الجمرة منه إلا قليل فهي بحالها جامدة ذات رماد لا تتلظى ولا تضيء البيت فإذا لم يكن بها خروق والمنفخة كبيرة والنافخ ذا قوة وصلت النفخة إلى الجمرة فتوقدت وأضاءت البيت وحميت الجدران واستحر الوقود واستمد وذاب ما في الكور ورمى بخبثه وصفى الباقي الذهب والفضة فصارت نقرة صافية تصلح للدراهم والدنانير فإذا ضربت كل شيء يروج في الأسواق مثل الواعظ
فالواعظ إذا وعظ من قلب عالم لكن لم يكن لعلمه سلطان لم تصل إلى القلوب نفخته والإيمان في القلوب مثل الجمرة والجمرة إذا بقيت في الشهوات علاها غبار الشهوات ورمادها فإذا لم يصل إلى القلب نفخة سلطان الوعظ مثل النفخ إذا لم يصل إلى الجمرة بقيت ذات رماد ولم تتوقد وإنما يستمع إلى [ ص: 237 ] ذلك أذن القلب واتعظ به ساعة من النهار ثم يدرس ذكره ويعطل لأن القلب لم يعه لأنه لم يكن له سلطان فتنفذ الأذن إلى باطنه فتمتزج بنور الإيمان فيشتمل عليه الإيمان فذاك وعاء القلب للموعظة
فإذا كان لعلمه سلطان ولكن لم يكن لقلبه سلطان فوعظ به ونظر إلى نفسه في ذلك الوعظ فرأى نفسه فوعظها بمنزلة المنفخ الكبير الذي فيه خروق فخرج الريح من تلك الخروق ولا يصل إلى الجمرة إلا قليل منه والغبار والرماد باق على الجمرة والبيت مظلم ولا تحمي الجدران ولا يذوب ما في الكور فلا يزايل الخبث من ذلك الذهب والفضة
فإذا كان علم الواعظ ذا سلطان وعن قلب ذي سلطان ناظرا بنور ذلك السلطان إلى جلال الله الذي منه بدا ذلك السلطان في قلبه طارت عن عيني فؤاده رؤية نفسه وقطعه شغله بجلال الله عن الالتفات إلى النفس وزينها في ذلك يقينها فأدت ذلك الوعظ مع سلطانه إلى القلوب ورمى كل غبار ورماد على جمرة الإيمان لأن الشهوات لا بقاء لها مع السلطان
[ ص: 238 ] وإذا أورد القلب سلطانه على الصدر خافت النفس فسكنت عن تلظيها فانقطع دخانها وانكشفت الجمرة عن غطائها وغبارها فتلظت وأضاء الصدر واستحر القلب فأبصرت أعين فؤاد السامعين الذي خلصت إلى قلوبهم النفخة صورة تلك الأشياء التي وصفها الواعظ فصارت أمور الآخرة معاينة على تلك القلوب فأجابت القلوب منهم والنفوس إلى ما دعوا إليه من الصدق والوفاء لله تعالى فما دام الواعظ بهذه الصفة فإجابة القلوب له خوفا وإلقاء باليدين سلما لأنه وصل إلى قلوبهم خوف السلطان الذي كان في قلب الواعظ فصار كالنافخ بالكير بالمنفخ الكبير الذي ليس فيه .خروق ولكن مع هذا لا يؤمن عليهم الارتداد على العقبين والرجوع عن هذه الأحاديث إلى إجابة النفوس إذا سكن عنهم الخوف دعتهم إلى فتنة تعرض لهم من الشهوات بشيء
فإذا انتقل الواعظ عن هذه الدرجة إلى درجة أعلى من هذه حتى ولج منازل المحبين ووصل إلى الملك واحتظى من مجالس ملك الملك وشرب من الكأس الأوفى من شراب خالقه وهو شراب المحبة وهو حب الله له لا حبه لله صار علمه [ ص: 239 ] ذا سلطان لأنه يعاين بفؤاده عما ينطق به فتلك الأنوار سلطان عليها فإذا وعظ كان وعظه رياح منافخه من ملك الألوهة ومن ملك الحب ومن ملك الله
وإذا وصلت إلى القلوب صارت موعظته قيدا للقلوب وليس لهذا العبد التفات إلى النفس ولا للنفس مهرب أيضا
فالأول رياح منافخه من ملك الجلال فخافت القلوب ووجلت وخمدت شهوات النفس من الخوف
فإذا كان حدث أو فترة درس هول الخوف فأطلعت النفس رأسها لأن الخوف يسكن النفس ويخمد الشهوات ولا يقيد
والحب يقيد الشهوات عن طبائعها فتتضاعف كل شهوة من اللذة أضعافا بحلاوة الحب فيتعلق القلب بتلك الحلاوة ويشتمل عليه والتزقت النفس بالقلب لما وجدت من اللذة وما يحيط به من نور العظمة حارسا للحب حتى لا يحدث من النفس فتترك الأدب وصار القلب مقيدا بحلاوة المحبة