مثل رجل أخذ الملك بيده فطاف به في قصوره وبساتينه ومتنزهاته حتى عاين ما فيها ثم أدخله في خزانته فطاف به فأراه جميع ما في خزانته ثم أفشى إليه أسراره التي تكون في عداد الثواب والدرجات وأسرار تدبير الملك أراد بذلك أن يتعلق قلبه به وتطمئن إليه نفسه ويكون من خواص خدمه بين يديه لا يبرح من الخدمة فتعلق به قلبه واندس في أموره ولزم باب الملك ونسي أحوال نفسه فلو وسع [ ص: 251 ] عليه بعد ذلك أو ضيق أو بره أو منعه بره لم يبرح الباب لما اطلع عليه من أسراره لأنه عرفه معرفة لا تتهمه في المنع والضيق مثل الغافل عن الله تعالى
وآخر فتح له الباب فوقف به على الباب ولم يطف به ولا أطلعه على أسراره وبقي على الباب ليس له دخول على الملك ولا معه سر ولا شيء فإذا هذا الشيء أحله هذا المحل خرج من الباب وقام مع ذلك الذي لا يؤذن لهم بهذه الكرامات فأعجب العقلاء من فعل هذا أن الملك اختارك من الجميع وعطف عليك وأظهر عليك محبته وعليك بسط رأفته وشفقته وآثرك على هذا الملإ الكثير فأخذ بيدك من جملتهم واستخرجك وخلصك من بينهم ليطوف بك في قصوره وليطلعك على أسراره واختارك لكشف أسراره عليك في تدبير المملكة فتركت ما هنالك ووليت معرضا لم تر شيئا وأقبلت على فهم نفسك تتشبه في سيرتك وآدابك وأعمالك بهذا المخذول المطرود المحروم على الباب الذي لم يعبأ به كأن جميع ذلك عندك لا شيء وتركهم كأنهم في مفازة حيارى ثم لم يزالوا في أعمالهم حتى أوقعهم في أرض شاكة [ ص: 252 ] ملتفة أشجارها حديدة شوكها فهم في فياف جياع عطاش جرحى من ذلك الشوك والحسك فما الذي يؤمنك أن يرمي بك الملك لتشبهك بهم في آدابهم وسيرتهم فينحيك إلى الباب ويسده عنك حتى تقع في مفازة الحيرة والأرض الشاكة
فربنا جل جلاله خلق دارا فحشاها بالرحمة وملأها بساتين ونعيما ورياضا وقصورا وأعدها لعباده وخلق سجنا فحشاها بسلطانه وغضبه وملأها بعذابه وأعدها للذاهبين برقابهم وأظهر من ملكه في ملكوت عرشه ولا حاجة له إلى شيء من ذلك إنما فعل هذا كله من أجل الآدميين منة 82 فاختار من كل ألف من عباده واحدا ففتح الباب له حتى عاين هذه الأشياء وترك الباقين في مفازة الحيرة الشاكة وهي المعاصي فتردوا في آبار الكبائر وجرف الجبابرة ويرتعون في القاذورات والكناسات فإذا كان هذا الواحد المختار المفتوح له الباب والمقبول في الدار والمطلع على الخزائن والأسرار أحمق لها عن [ ص: 253 ] فتح الباب وعما اطلع عليه ورجا فيه خرج من الدار وأقبل على ظلمات .نفسه الخائنة وغرة العدو وأخرجه رويدا رويدا من الباب الذي فتح له فولجه فأبصره بالاستلذاذ وقضاء النهمات والأماني الكاذبة نفسية وشهوانية قد أجلب له حتى تأشر نفسه وتبطر ويمتلئ من لذتها والفرح بها فيورثه الأشر والبطر حتى يخرجه إلى ما لم يطلق له من ذلك النوع الذي أحل له ويتعدى حدود الله فيه حتى أشر وبطر وتعدى حدود الله فيها وتجاوزها فقد ظلم نفسه حتى يصير عاديا يسترق من الله نفسه وجوارحه ويعدو هاربا فسماه عاديا في تنزيله بفعله قال الله تبارك وتعالى والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون
[ ص: 254 ] فلا يزال العدو يسوقه في مفاوز الحياة حتى يرمي به إلى النار سوق الحمار الدبر الجوال في أفنية الدور يرتعي في كناسهم حتى يرمي به إلى الشاكة الملتفة أشجارها وشوكها فسجنه فيها حتى لا يقدر أن يخرج منها كلما اضطرب لزمته حدة الشوك وأوجعته جراحتها وهي الكبائر من الدماء والأموال والبغي والعلو والجرأة على الله تعالى
فكل ما ذكرنا عاين في تلك الفسحة والتفت إليها التفت من بعد وذلك لبعد قلبه فعاين ذلك كالجبال من البعد الذي تباعد فالقلب قلب الموحدين واللسان لسان الموحدين والنفس نفس الكافرين بما تشبه بهم في الأعمال والسيرة
وهذا جزاء من رفع الله لقلبه علما فأعرض عنه وهذا جزاء من أقبل على نفسه بعد كرامة الله تعالى إياه حتى يبقى في العذاب غدا وفي دار الهوان دهرا لا يدري كم أمد ذلك الدهر
[ ص: 255 ]