( الفرق الثالث والثمانون والمائة بين قاعدة الذمة وبين قاعدة أهلية المعاملة )
اعلم أن الذمة قد أشكلت معرفتها على كثير من الفقهاء وجماعة يعتقدون أنها أهلية المعاملة فإذا [ ص: 227 ] قلنا زيد له ذمة معناه أنه أهل لأن يعامل وهما حقيقتان متباينتان بمعنى أنهما متغايرتان وتحقيق التغاير بينهما أن كل واحدة من هاتين الحقيقتين أعم من الأخرى من وجه وأخص من وجه فإن التصرف يوجد بدون الذمة ، والذمة توجد بدون أهلية التصرف ويجتمعان معا كالحيوان والأبيض يوجد الحيوان ولا أبيض كالأسودان والأبيض ولا حيوان كالجير والثلج ويجتمعان معا كالصقالبة والطيور البيض ، وهذا هو ضابط الأعم والأخص من وجه فالصبيان عندنا المميزون يصح بيعهم وشراؤهم ويقف اللزوم على إجازة الولي ، وقال رحمه الله لا ينعقد أصلا وإن أذن له الولي وجوزه الشافعي بإذن الولي فإن عقد بغير إذن الولي وقف على إجازته ، وقال أبو حنيفة إن عقده بإذن صح وإلا فلا واتفق الجميع على عدم الذمة في حقه فهذا القسم [ ص: 228 ] حصل فيه أهلية التصرف عندنا ، وعند ابن حنبل أبي حنيفة من غير ذمة له عند الجميع وتوجد وابن حنبل كالعبيد فإنهم محجور عليهم لحق السادات . الذمة بدون أهلية التصرف
وإن قلنا إنهم يملكون فلا يجوز لهم التصرف إلا بإذن السادات سدا لذريعة إفساد ما لهم وحق السادات متعلق به ، ولو جنوا جناية ولم يقع الحديث فيها ولا الحكم كانت متعلقة بذمته إذا عتق طولب بها بخلاف الصبي إذا بلغ لا يطالب بما تقرر في ذمته قبل البلوغ لكن بما تقدم سببه قبل البلوغ ويطالب به الآن .
وأما العبد يطالب بما تعلق بذمته قبل العتق ، فيكون قد تقدم في حق العبد السبب والملزوم وفي حق الصبي السبب دون اللزوم ، وكذلك إذا بقي الصداق في ذمته يطالب به بعد العتق فاللزوم سابق والمطالبة متأخرة [ ص: 229 ] وكلاهما متأخر في حق الصبي لعدم الذمة في حق الصبي ووجودها في حق العبد وتوجد أهلية التصرف والذمة معا في حق الحر البالغ الرشيد فإن له أهلية التصرف وله ذمة فقد ظهر أن الذمة وأهلية التصرف كل واحد منهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فهما متغايران ويؤكد ذلك أن المفلس محجور عليه في ماله الذي حازه الحاكم ليس له أن يتصرف فيه وله أهلية التصرف في مال يستدينه من قوم آخرين أو يرثه أو يوهب له فقد اختصت تزوج بغير إذن سيده وفسخ نكاحه ببعض الأموال ، وأما ذمته فثابتة بالنسبة إلى الجميع في المالين فقد صارت الذمة في هذه الصور أعم من أهلية التصرف وأهلية التصرف أخص من الذمة لحصولها في البعض من الأموال دون البعض [ ص: 230 ] أهلية التصرف
فإن قلت الحكم على الشيء بالرد والقبول فرع عن كونه معقولا ومعنى الذمة تعبد غير معقول فكيف يقضى عليها بالعموم أو الخصوص أو غيرهما فلا بد من بيان الحقيقتين وإلا فلا يتحصل من هذه العمومات والخصوصات مقصود قلت أنها معنى [ ص: 231 ] شرعي مقدر في المكلف قابل للالتزام واللزوم ، وهذا المعنى جعله الشرع مسببا على أشياء خاصة منها البلوغ ومنها الرشد فمن بلغ سفيها لا ذمة له ، ومنها ترك الحجر كما تقدم في المفلس فمن اجتمعت له هذه الشروط رتب الشرع عليها تقدير معنى فيه يقبل إلزامه أرش الجنايات وأجر الإجارات وأثمان المعاملات ونحو ذلك من التصرفات ويقبل التزامه إذا التزم أشياء اختيارا من قبل نفسه لزمه ، وإذا فقد شرط من هذه الشروط لم يقدر الشرع هذا المعنى القابل للإلزام والالتزام ، وهذا المعنى المقدر هو الذي تقدر فيه الأجناس المسلم فيها مستقرة حتى يصح مقابلتها بالأعواض المقبوضة ناجزا في ثمنها ، وفيه تقدر أثمان البياعات بثمن إلى آجال بعيدة أو قريبة وصدقات الأنكحة والديون في الحوالات والحقوق في الضمانات وغير [ ص: 232 ] ذلك ولا جرم من لا يكون هذا المعنى مقدرا في حقه لا يصح في حقه شيء من هذه الأمور فلا ينعقد في حقه سلم ولا ثمن إلى أجل ولا حوالة ولا حمالة ولا شيء من ذلك ، فهذا هو حقيقة الذمة وبسطها والعبارة الكاشفة عنها والسبب الشرعي الذي يقدر الشرع عنده المعنى الذي هو الذمة ، وأما أهلية التصرف فحقيقتها عندنا قبول يقدره صاحب الشرع في المحل وسبب هذا القبول المقدر التمييز عندنا ، وعند العبارة الكاشفة عن الذمة التميز مع التكليف . الشافعي
وهذا القبول الذي هو أهلية التصرف لا يشترط فيه عندنا الإباحة فإن الفضولي عندنا له أهلية التصرف وتصرفه حرام [ ص: 233 ] وللمالك عندنا إمضاء ذلك التصرف من غير تجديد عقد آخر ينفذ ذلك التصرف فدل ذلك على أن العقد المتقدم قابل للاعتبار وإنما تعلق به حق آدمي كتصرف العبد بغير إذن سيده ، ثم إن أهلية التصرف قد توجد في النكاح الذي لا يثبت في الذمم كتصرف الأولياء في الموليات له وتوجد في الأحكام فيما لا يثبت في الذمم ، وأنواع التصرفات كثير فيما لا يثبت في الذمة فأهلية التصرفات أهلية وقبول خاص كما تقدم ليس فيه إلزام ولا التزام والذمة معنى مقدر في المحل قابل لهما فهذا هو نفس الفرق بينهما مع أن كليهما معنى مقدر في المحل ووقع الفرق أيضا من حيث السبب فإن الذمة يشترط فيها التكليف من غير خلاف أعلمه [ ص: 234 ] بخلاف أهلية التصرف فقد وضح الفرق بينهما فإن قلت هل هما من باب خطاب الوضع الذي هو وضع الأسباب والشروط والموانع والتقادير الشرعية أو من باب خطاب التكليف الذي هو الوجوب [ ص: 235 ] والتحريم والندب والكراهة والإباحة كما ، قلته في الملك إنه من باب خطاب التكليف وأنه يرجع إلى الإذن والإباحة عند أسباب خاصة وإباحة خاصة كما تقدم بيانه في ذلك .
قلت الذي يظهر لي وأجزم به أن من باب خطاب الوضع دون خطاب التكليف وأنهما يرجعان إلى التقادير الشرعية ، والتقادير الشرعية هي إعطاء الموجود حكم المعدوم والمعدوم حكم الموجود ، وقد تقدم بسطها في الفرق بين الخطابين والذمة وأهلية التصرف من القسم الثاني وهو إعطاء المعدوم حكم الموجود فإنه لا شيء في المحل من الصفات الموجودة كالألوان والطعوم ونحوهما من الصفات الموجودة وإنما هو نسبة خاصة يقدرها صاحب الشرع عند سببها موجودة وهي لا وجود لها ، بل هذا المعنى من التقدير فقط كما يقدر الملك في العتق وهو معدوم [ ص: 236 ] وكذلك هذه التقادير تذهب عند ذهاب أسبابها وتثبت عند تثبيت أسبابها كمتعلقات الخطاب في التحريم والإباحة وغيرهما والتعلقات أمور عدمية تقدر في المحال موجودة فهذا هو تلخيص معنى الذمة وأهلية التصرف والفرق بينهما فتأمله . الذمة وأهلية التصرف