( الفرق الثامن والعشرون والمائة بين قاعدة وقاعدة ما لا يدخله المجاز والتخصيص ) ما يدخله المجاز في الأيمان والتخصيص
اعلم أن الألفاظ على قسمين نصوص وظواهر فالنصوص هي التي لا تقبل المجاز ولا التخصيص والظواهر هي التي تقبلها ، فالنصوص التي هي كذلك قسمان أسماء للأعداد نحو الخمسة والعشرة وغير ذلك من أسماء الأعداد أولها الاثنان وآخرها الألف ولم تصنع العرب بعد ذلك لفظا آخر للعدد بل عادت إلى رتب الأعداد فقالت ألفان وهذا هو التثنية فتكرر مراتب الأعداد وهي أربعة : الآحاد إلى العشرة والعشرات إلى المائة والمئات إلى الألف ثم الألوف فهذه الأربعة هي رتب الأعداد وهي آحاد وعشرات ومئات وألوف وتكرر هذه الألفاظ في مراتب الأعداد إلى غير النهاية مكتفية بها من غير النهاية فهذه عند العرب نصوص لا يدخلها المجاز ولا التخصيص فلا يجوز أن تطلق العشرة وتريد بها التسعة ولا غيرها من مراتب الأعداد فهذا هو المجاز وأما التخصيص فلا يجوز أن تقول رأيت عشرة ثم تبين بعد ذلك مرادك بها وتقول أردت خمسة فإن التخصيص مجاز أيضا لكنه يختص ببقاء بعض المسمى ، والمجاز قد لا يبقى معه من المسمى شيء كما تقول رأيت إخوتك ثم تقول بعد ذلك أردت بإخوتك نصفهم وهم فلان وفلان فهذا تخصيص وقد بقي اللفظ مستعملا في بعض الإخوة والمجاز الذي ليس بتخصيص أن تقول أردت بإخوتك مساكنهم أو دوابهم ووجه العلاقة ما بين الإخوة وهذه الأمور من الملابسة وليس المساكن ولا الدواب بعض الإخوة فلم يبق من المسمى شيء فالمجاز أعم من التخصيص فكل تخصيص مجاز وليس كل مجاز تخصيصا فالأعداد لا يدخلها المجاز .
ولا التخصيص فالتخصيص أن تريد بالعشرة بعضها والمجاز أن تريد [ ص: 61 ] بالعشرة مسمى العشر أو بالخمسة مسمى الخمس لأن العشرة نسبة العشر لأنها عشر المائة والخمسة نسبة الخمس لأنها خمس الخمسة والعشرين فهذا أجنبي عنها بالكلية
( القسم الثاني ) من النصوص الألفاظ التي هي مختصة بالله تعالى نحو لفظ الجلالة ولفظ الرحمن فإنه لا يجوز استعمالها في غير الله تعالى بإجماع الأمة فهذا الامتناع شرعي والامتناع في الإعداد لغوي وأما الظواهر فهي ما عدا هذين القسمين من العمومات نحو المشركين وأسماء الأجناس نحو الأسد وغيره مما وضع لجنس من الجماد أو النبات أو الحيوان أو جنس من قبيل الإعراض نحو العلم والظن والألوان والطعوم والروائح فيجوز المجاز فيها كما يجوز إطلاق العلم ويراد به الظن مجازا كقوله تعالى { فإن علمتموهن مؤمنات } أي ظننتموهن فإن الأيمان أمر باطن لا يعلم ولكن تدل عليه ظواهر الأحوال وكقوله تعالى { فظنوا أنهم مواقعوها } أي قطعوا وعلموا هذا هو المقرر في أصول الفقه وفي أبواب الفقه عند الفقهاء في أبواب الأيمان والطلاق وغيرهما وعليه سؤال وذلك أن العرب قد تستعمل اسم العدد مجازا كقوله تعالى { إن تستغفر لهم سبعين مرة } قال العلماء المراد الكثرة كيف كانت وكذلك قوله سبعون زراعا أي طويلة جدا وخصوص السبعين ليس مرادا بل المراد الكثرة جدا وهذا مجاز قد دخل في السبعين وهم اسم العدد وكذلك قوله تعالى { فارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير } .
قال المفسرون المراد بكرتين المراجعة الكثيرة من غير حصر وعبر بلفظ التثنية عن أصل الكثرة وهذا مجاز قد دخل في لفظ كرتين غير أنه ليس من أسماء العدد واسم العدد إنما هو اثنان لكن كرتين في معناها ويقول أهل العرف سألتك ألف مرة فما قضيت لي حاجة وكذلك زرتك مائة مرة فلم ترع لي ذلك ولا يريدون خصوص الألف والمائة بل الكثرة وهذا مجاز قد دخل في المائة والألف وإذا انفتح الباب في هذه الألفاظ في بعضها انخرم الجزم في بقيتها فلم يبق لنا نصوص ألبتة في أسماء الأعداد غير أن الفقهاء مطبقون على ما تقدم والواقع كما ترى فتأمله وعلى ما تقدم من صحة القاعدتين والفرق بينهما تتخرج ثلاث مسائل ( المسألة الأولى )
إذا لم تفده نيته وحنث إن خرج اليوم ولم يعتق الثالث لأن استعمال لفظ الثلاثة في الاثنين مجاز وهو لا يدخل في أسماء الأعداد وكذلك بقية أسماء الأعداد لا تفيد فيها النية في الأيمان ولا في الطلاق ولا في غيرهما ( المسألة الثانية ) حلف ليعتقن ثلاثة عبيد اليوم فأعتق عبدين وقال أردت بلفظ ثلاثة الاثنين
إذا أفاده ذلك لأنه يجوز استعمال العبيد مجازا في الدواب والعلاقة الملك في الجميع واستعمال العتق مجاز في البيع والعلاقة بطلان الملك فهذا تفيده فيه النية والمجاز ( المسألة الثالثة ) قال والله لأعتقن عبيدي قال أردت بعضهم على سبيل التخصيص أو أردت بعبيدي دوابي وأردت بالعتق بيعها
إذا صح لأن لفظ ثلاثة لم يدخله مجاز وإنما دخل المجاز في المعدود وهو اسم جنس أعني العبيد فعبر بجنس العبيد عن جنس الدواب وذلك جائز ولم يعبر بلفظ الثلاث عن غير الثلاث فهو على بابه ونظيره من الطلاق أن قال والله لأعتقن ثلاثة [ ص: 62 ] عبيد ونوى أنه يبيع ثلاث دواب من دوابه لا يفيده ذلك وإن قال أردت أنك طلقت ثلاث مرات من الولد أفاده ذلك ولم يلزمه طلاق في الفتيا ولا في القضاء إن لم تقم عليه بينة أو قامت لكن هناك من القرائن ما يعضده وإلا لزمه الطلاق الثلاث في القضاء دون الفتيا . يقول أنت طالق ثلاثا ويريد بالثلاث اثنتين أو واحدة
وقد أشكل ذلك على بعض الفقهاء فقال أثرت النية في الكل ولم تؤثر في البعض وذلك خلاف القواعد فإن النية أبطلت الطلقات الثلاث كلها إذا نوى طلق الولد وهذا هو جملة مدلول اللفظ فأولى أن يبطل بعض مدلول اللفظ وهو أن يريد بالثلاث اثنتين وجوابه أن النية إنما أثرت في لفظ المعدود فقط وهو الطلاق وأما اسم العدد فباق على حاله ثلاثا غير أنه لما تغير المعدود وانتقل انتقل العدد معه على حاله وهو ثلاث من غير تغيير لمفهوم الثلاث فدخل التغيير والمجاز في اسم الجنس الذي هو الطلاق لأن الطلاق اسم جنس دون الثلاث لأنه اسم عدد فلم يدخل فيه مجاز ألبتة غير أن معدوده تغير من الطلاق الذي هو إزالة العصمة إلى جنس آخر وهو طلق الولد أو غيره من الأجناس فلا إشكال حينئذ فإن قلت لو قال والله أو والرحمن لا فعلت كذا وقال أردت بلفظ الجلالة أو بلفظ الرحمن غير الله تعالى وعبرت بهذا اللفظ عن بعض المخلوقات لله من باب إطلاق الفاعل على أثره لما بينهما من العلاقة والحلف بالمخلوق لا تلزم به كفارة فلا تلزمني كفارة هل تسقط عنه الكفارة بناء على هذا المجاز قلت ظاهر كلام العلماء أن هذا تلزمه الكفارة إذا حنث وأن هذين اللفظين لا يجوز استعمالهما لغير الله تعالى .
وما امتنع شرعا فهو كالمعدوم حسا فتلزمه الكفارة وهذا بخلاف لو قال أردت بقولي والعليم والعزيز وغير ذلك من أسماء الله تعالى أو كفالة الله وعهد الله وعلم الله وغير ذلك من صفاته التي تقدم بسطها بعض مخلوقاته ممن هو عليم أو عزيز أو بعض صفات البشر من العلم والكفالة والعهد وغير ذلك فأضفته إلى الله تعالى إضافة الخلق للخالق فإنا نسمع هذه النية وتفيده في إسقاط الكفارة لأن هذه الألفاظ ليست نصوصا بل أسماء أجناس وقد قال جماعة من العلماء إنها كنايات لا تكون يمينا إلا بالنية لقوة التردد عندهم والاحتمال وقد حكيته فيما مضى عن الشافعية والحنابلة والحنفية وقالوا ذلك أيضا في الصفات واشترطوا فيها الشهرة العرفية ونحن وإن لم نوافقهم على ذلك فنحن نلزمه الكفارة بناء على الظهور والصراحة لا بناء على النصوصية التي لا تقبل المجاز فتأمل هذه المواطن وما تفيد فيه نية المجاز وما لا تفيد فإنه فرق محتاج إليه في الفتيا والقضاء حاجة شديدة وقد اتضح [ ص: 63 ] إيضاحا حسنا من فضل الله عز وجل .
[ ص: 61 - 63 ]