[ ص: 75 ] ( الفرق الثاني والثلاثون والمائتان بين قاعدة المدعي وقاعدة المدعى عليه ) فإنهما يلتبسان فليس كل طالب مدعيا ، وليس كل مطلوب منه مدعى عليه ، ولأجل ذلك وقع الخلاف بين العلماء فيهما في عدة مسائل ، والبحث في هذا الفرق بحث عن تحقيق قوله عليه السلام { } البينة على من ادعى واليمين على من أنكر
فضابط المدعي والمدعى عليه فيه عبارتان للأصحاب إحداهما أن المدعي هو أبعد المتداعيين سببا ، والمدعى عليه [ ص: 75 ] هو أقرب المتداعيين سببا ، والعبارة الثانية ، وهي توضح الأولى المدعي من كان قوله على خلاف أصل أو عرف ، والمدعى عليه من كان قوله على وفق أصل أو عرف ، وبيان ذلك بالمثل أن من هو المدعي الذي عليه البينة ، ومن هو المدعى عليه الذي يحلف فإنه مدعى عليه ، والوصي المطلوب مدع فعليه البينة لأن الله تعالى أمر الأوصياء بالإشهاد على اليتامى إذا دفعوا إليهم أموالهم فلم يأتمنهم على الدفع بل على التصرف والإنفاق خاصة ، وإذا لم يكونوا أمناء كان الأصل عدم الدفع ، وهو يعضد اليتيم ، ويخالف الوصي فهذا طالب ، واليمين عليه لأنه مدعى عليه ، والوصي مطلوب ، وهو مدع ، وكذلك طالب الوديعة التي سلمها للمودع عند بينة لأنه لم يأتمن المودع عنده لما أشهد عليه فالقول قول صاحب الوديعة مع بينة ، وإن كان طالبا لأن ظاهر حال المودع عنده لما قبض ببينة أنه لا يعطي إلا ببينة . اليتيم إذا بلغ ، وطلب الوصي بما له تحت يده فقال أوصلتك
والأصل أيضا عدم الدفع فاجتمع الأصل والغالب ، وهما يعضدان صاحب الوديعة ، ويخالفان القابض لها ، وكذلك القراض إذا قبض ببينة فإن فالقول قول العامل والمودع عنده لأن يدهما يد أمانة صرفة ، والأمين مصدق ، ونظائر هذا كثيرة يكون الطالب فيها مدعى عليه ، ويعتمد أبدا الترجيح بالعوائد وظواهر الأحوال والقرائن فيحصل لك من هذا النوع ما لا ينحصر عدده ، ومن هذا الباب إذا قبضت الوديعة أو القراض بغير بينة كان الدباغ مدعى عليه أو قاض وجندي رمحا كان الجندي مدعى عليه ، وعليه مسألة تداعى بزاز ودباغ جلدا أن يقول قول الرجل فيما يشبه قماش الرجال ، والقول قول المرأة فيما يشبه قماش النساء ، وإذا تنازع عطار وصباغ في مسك وصبغ قدم العطار في المسك والصباغ في الصبغ ، وقد تقدمت هذه المسألة ، والخلاف فيها مع الزوجين إذا اختلفا في متاع البيت رضي الله عنه ، وكذلك خالفنا في هذه المسائل المتقدمة كلها ، وحجتنا النصوص المتقدمة ، وأما الأصل وحده من غير ظاهر ولا عرف فمن الشافعي ونحوها فإن الأصل عدم هذه الأمور ، والقول قول المطلوب منه مع يمينه لأن الأصل يعضده ، ويخالف الطالب ، وهذا مجمع عليه ، وإنما الخلاف في الظواهر المتقدمة ، وظهر لك بهذا قول الأصحاب أن المدعي هو أضعف المتداعيين سببا ، والمدعى عليه هو أقوى المتداعيين سببا . ادعى على شخص دينا أو غصبا أو جناية
( تنبيه ) ما ذكرناه من الظواهر ينتقض بما اجتمعت عليه الأمة من أن الصالح التقي الكبير العظيم المنزلة [ ص: 76 ] والشأن في العلم والدين بل أو أبو بكر الصديق عمر بن الخطاب لو ادعى على أفسق الناس وأدناهم درهما لا يصدق فيه ، وعليه البينة ، وهو مدع ، والمطلوب مدعى عليه ، والقول قوله مع يمينه ، وعكسه لو لكان الحكم كذلك ، وبهذا يحتج ادعى الطالح على الصالح علينا ، ويجيب عما تقدم ذكره بذلك ، وكما أن هذه الصور حجة الشافعي فهو نقض على قولنا المدعي من خالف قوله أصلا أو عرفا ، والمدعى عليه من وافق قوله أصلا أو عرفا فإن العرف في هذه الصور شاهد ، وكذلك الظاهر ، وقد ألغيا إجماعا فكان ذلك مبطلا للحدود المتقدمة ، ونقصا على المذهب فتأمل ذلك للشافعي
( تنبيه ) قال بعض العلماء قول الفقهاء إذا تعارضا الأصل والغالب يكون في المسألة قولان ليس على إطلاقه بل اجتمعت الأمة على اعتبار الأصل وإلغاء الغالب في دعوى الدين ونحوه فالقول قول المدعى عليه ، وإن كان الطالب أصلح الناس وأتقاهم لله تعالى ، ومن الغالب عليه أن لا يدعي إلا ماله فهذا الغالب ملغى إجماعا ، واتفق الناس على تقديم الغالب وإلغاء الأصل في البينة إذا شهدت فإن الغالب صدقها ، والأصل براءة ذمة المشهود عليه ، وألغي الأصل هنا إجماعا عكس الأول فليس الخلاف على الإطلاق .