( الفرق الحادي والعشرون بين ) وهذا المعنى قد التبس على جمع كثير من فقهاء المذهب وغيرهم وهذا الموضع أصله إطلاق وقع في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الاسم هل يقتضي الاقتصار على أوله أم لا ؟ قولان فلما وقع هذا الإطلاق للأصوليين عمل جماعة من الفقهاء على تخريج الفروع عليه على خلاف ما تقتضيه هذه القاعدة ولا بد من بيان قاعدتين : قاعدة الحمل على أول جزئيات المعنى وقاعدة الحمل على أول أجزائه أو الكلية على جزئياتها وهو العموم على الخصوص
( القاعدة الأولى ) تحقيق الجزئي ما هو وله معنيان : أحدهما كل شخص من نوع كزيد وعمرو وغيرهما من أفراد الإنسان وكذلك كل شخص من نوع كالفرس المعين من نوع الفرس والحجر المعين من نوع الحجارة ونحو ذلك وثانيهما ما اندرج تحت كلي هو وغيره وهذا أعم من الأول فإنه يصدق بالأشخاص كزيد وعمرو لاندراجهما تحت مفهوم الإنسان والحيوان وغيرهما ويصدق أيضا على الأنواع والأجناس التي ليست بأشخاص لاندراجها تحت كلي هي وغيرها فالإنسان يندرج تحت الحيوان مع الفرس والحيوان مع النبات مندرج تحت النامي والنامي والجماد مندرجان تحت الجسم فهذان هما . معنى الجزئي
( القاعدة الثانية ) بيان الجزء وهو الذي لا يعقل إلا بالقياس إلى كل فالكل مقابل للجزء والكلي مقابل للجزئي فالخمسة من العشرة جزء والحيوان من الإنسان جزء والإنسان كل لتركبه من الحيوان والناطق وهاهنا قاعدة وهي أن اللفظ الدال على الكل دال على جزئه في الأمر وخبر الثبوت بخلاف النهي وخبر النفي فإذا أوجب الله تعالى ركعتين فقد أوجب ركعة [ ص: 135 ] وإذا قلنا عند زيد نصاب فعنده عشرة دنانير أما إذا نهى الله تعالى عن ثلاث ركعات في الصبح فلا يلزم منه النهي عن ركعتين وإذا قلنا ليس عنده نصاب لا يلزم أن لا يكون عنده عشرة دنانير بل تسعة عشر والسر في ذلك أن النهي يعتمد إعدام الحقيقة وعدم الحقيقة يصدق بعدم جزء واحد منها ولا يتوقف عدمها على عدم جميع أجزائها كما يعدم النصاب بدينار فكذلك خبر النفي أما ثبوت الحقيقة فيتوقف على ثبوت جميع أجزائها فلا يثبت النصاب إلا بثبوت جميع عشرين دينارا وكذلك الأمر بتحصيل المركب يتوقف على تحصيل جميع الأجزاء فلا تحصل الركعتان حتى تتحصل كل واحدة منهما فلذلك دل الأمر وخبر الثبوت على ثبوت الجزء دون النهي وخبر النفي [ ص: 136 ] واللفظ الدال على الكلي لا يدل على جزئي من جزئياته مطلقا من غير تفصيل بل إنما يفهم الجزئي من أمر آخر غير اللفظ فإذا قلنا : في الدار جسم لا يدل ذلك على أنه حيوان .
وإذا قلنا : فيها حيوان لا يدل ذلك على أنه إنسان وإذا قلنا : فيها إنسان لا يدل ذلك على أنه مؤمن أو كافر وإذا قلنا : فيها مؤمن لا يدل ذلك على أنه زيد إذا تقررت هذه القاعدة ظهر أن حمل اللفظ على أدنى مراتب جزئياته لا تكون فيه مخالفة للفظه لعدم دلالته على غير هذا الجزئي أما إذا حملنا اللفظ على أقل الأجزاء فقد خالفنا اللفظ فإنه يدل على الجزء الآخر وما أتينا به ومخالفة لفظ صاحب الشرع لا تجوز بخلاف الأول فإذا قال الله تعالى صوموا رمضان فمن عمد إلى الاقتصار على أقل أجزائه فقد خالف لفظ صاحب الشرع بخلاف ما إذا قال الله تعالى اعتقوا رقبة فعمدنا إلى رقبة تساوي عشرة وتركنا الرقبة التي تساوي ألفا لا نكون مخالفين للفظ صاحب الشرع وبهذا يظهر بطلان قول من يخرج الخلاف في أم لا بد من جملته على هذه القاعدة لأن هذا اقتصار على جزء لا جزئي فهو كالاقتصار على يوم من رمضان فلا يصح وكذلك تخريج الخلاف في التيمم هل هو إلى الكوعين أو إلى المرفقين أو إلى الإبطين على هذه القاعدة لا يصح أيضا فإن الكوع جزء اليد لا جزئي منها فكان كالاقتصار على يوم من رمضان وكل ما هو من هذا القبيل من التخريج ليس بصحيح فتأمله فهو كثير في مذهب غسل الذكر من المذي هل يقتصر فيه على الحشفة وغيره من [ ص: 137 ] المذاهب وكذلك مالك ترك لظاهر العموم من غير دليل وهو باطل إجماعا فيجتنب في هذا الباب حمل الكل على بعض أجزائه وحمل الكلية على بعض جزئياتها فهو حمل العام على بعض الخصوصيات فهذه كلها تخريجات باطلة بل التخريج الصحيح في فروع منها فرع حمل اللفظ العام على بعض أفراده قولان يناسب تخريجهما على القاعدة بسبب أن قوله عليه السلام { الحضانة هل تستحقه الأم إلى الإثغار أو إلى البلوغ } كما جاء في الحديث المشهور يقتضي ثبوت الأحقية لها إما غاية معينة فلم يذكرها صاحب الشرع غير غاية تتعلق بها هي وبحالها وهي عدم الزواج إما غاية تتعلق بحاله هو فلم يذكرها صاحب الشرع بل الأحقية فقط وهي تصدق بطرفين فأدناهما الإثغار وأعلاهما البلوغ فإذا حملنا الحضانة على الإثغار لا نكون مخالفين لمقتضى لفظ الأحقية باعتبار حاله فقد وفينا بالقاعدة مع عدم مخالفة اللفظ . أنت أحق به ما لم تنكحي
فإن قلت : فقد خولفت الغاية المقولة بالنسبة إلى حالها هي وهي عدم الزواج قلت : مسلم لكن هذه الغاية هي إشارة إلى المانع وأن زواجها مانع من ترتب الحكم على سببه والمانع وعدمه لا مدخل لهما في ترتب الأحكام بل في عدم ترتبها كما تقدم أن المؤثر في المانع إنما هو وجوده في العدم لا عدمه في الوجود والتخريج إنما وقع فيما اقتضاه اللفظ من موجب الحكم وسببه [ ص: 138 ] وما يترتب عليه الثبوت ومنها اختلف العلماء فيه أيضا هل يمنع ذلك إلى البلوغ أو الإثغار وهو المشهور في هذا دون الأول وتخريجه على القاعدة متيسر أيضا حسن بسبب أن قوله عليه السلام { التفرقة بين الأمة وولدها } عام في الوالدات والمولودين من جهة أن والدة نكرة في سياق النفي فتعم وولدها اسم جنس أضيف فيعم وعام في الزمان أيضا من جهة أن لا لنفي الاستقبال على جهة العموم ومنه { لا توله والدة على ولدها لا يموت فيها ولا يحيا } فإن ذلك يعم الأزمنة المستقبلة غير أنه مطلق في أحوال الولد لأن القاعدة أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال .
وإذا كان مطلقا في الأحوال فهو يتناول أمرا كليا يصدق في رتبة دنيا وهي الإثغار ورتبة عليا وهي البلوغ فإذا خرج الخلاف على القاعدة من هذا الوجه استقام لأنه حمل اللفظ على أدنى مراتب جزئياته ولا يخالف اللفظ الدال على الكلي وأما عموم لا فهو راجع إلينا كأنه قال : حرم الله تعالى عليكم ذلك في جميع الأزمنة المستقبلة من زمن هذا الخطاب وليس عمومه بالنسبة إلى الأمهات والأولاد فلم تكن فيه معارضة لعدم العموم في الوالدات فتأمل ذلك ومنها قوله تعالى { فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } اختلف العلماء في ذلك هل محمله على أدنى مراتب الرشد وهو الرشد في المال خاصة قاله : أو على أعلى مراتب الرشد وهو الرشد في المال والدين قاله : مالك مع أن الرشد ذكر بصيغة التنكير الدال على المعنى الأعم الذي لا يدل على جزئي خاص فليس في حمله على أدنى الرتب مخالفة للفظ ألبتة ولا من وجه محتمل بخلاف المثالين الأولين فيهما تلك المخالفة التي احتيج للاعتذار عنها ومنها مسألة الحرام إذا الشافعي [ ص: 139 ] خلاف يصح تخريجه على هذه القاعدة لأن قوله حرام مطلق دال على مطلق التحريم الدائر بين الرتب المختلفة فأمكن حمله على أعلاها أو على أدناها ويلحق بمسألة الحرام ما معها في مذهب قال : أنت علي حرام فهل يحمل على الثلاث أو الواحدة من الألفاظ نحو مالك ومنها مسألة التيمم في قوله تعالى { ألبتة والبائن وحبلك على غاربك هل يحمل على أعلى الرتب وهو الثلاث أم لا فتيمموا صعيدا } فقوله صعيدا مدلوله أمر كلي يمكن حمله على أدنى الرتب وهو مطلق ما يسمى صعيدا ترابا كان أو غيره من جنس الأرض وهو مذهب رحمه الله أو أعلى رتب الصعيد وهو التراب وهو مذهب مالك فهذه المسألة أيضا حسنة التخريج على هذه القاعدة من غير معارض من جهة اللفظ ولا المعنى . الشافعي
ومنها قوله عليه السلام { } والمثلية في لسان إذا سمعتم المؤذن يؤذن فقولوا مثل ما يقول العرب تصدق بين الشيئين بأي وصف كان من غير شمول فإذا قلت : زيد مثل الأسد كفى في ذلك الشجاعة دون بقية الأوصاف وكذلك زيد مثل عمرو يصدق ذلك حقيقة بمشاركتهما في صفة واحدة فالمثل المذكور في الأذان إن حمل على أعلى الرتب قال : مثل ما يقول إلى آخر الأذان أو على أدنى الرتب ففي التشهد خاصة وهو مشهور مذهب فهذه ست مسائل تنبهك على صحة التخريج على هذه القاعدة والمسائل السابقة تنبهك على التخريج الفاسد عليها لأن الأول من باب الأجزاء وهذه من باب الجزئيات فقد ظهر لك الفرق بينهما والصحيح من الفاسد . مالك
( تنبيه ) ليس الخلاف في هذه [ ص: 140 ] القاعدة مطلقا في جميع فروعها بل فروعها ثلاثة أقسام : قسم أجمع الناس فيه على الحمل على أعلى الرتب وهو ما ورد من الأوامر بالتوحيد والإخلاص وسلب النقائص وما ينسب إلى الرب تعالى من التعظيم والإجلال في ذاته وصفاته العليا فهذا القسم الأمر فيه متعلق بأقصى غايته الممكنة للعبيد ومع ذلك فقد قال : عليه السلام { } وقسم أجمع الناس فيه على الحمل على أدنى الرتب وهو الأقارير فإذا قال : له عندي دنانير حمل على أقل الجمع وهو ثلاثة وهو أدنى رتبها مع صدقها في الآلاف لكون الأصل براءة الذمة فيقبل تفسيره بأقل الرتب وليس الأصل إهمال جانب الربوبية بل تعظيمها والمبالغة في إجلال الله تعالى لقوله تعالى { لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } .
وقال مع ذلك في الآية الأخرى { وما قدروا الله حق قدره } وذلك يقتضي أن جميع الغايات التي وصلوا إليها دون ما ينبغي له تعالى من التعظيم والإجلال فهذا هو الفرق بين القسمين القسم الثالث مختلف فيه وهو ما تقدم من المسائل فهذا تلخيص هذه القاعدة على وجه لا يلتبس بعد ذلك إن شاء الله تعالى .