( الفرق الحادي والثلاثون والمائة بين قاعدة وبين قاعدة الانتقال من الإباحة إلى الحرمة يكفي فيها أيسر الأسباب ) الانتقال من الحرمة إلى الإباحة يشترط فيها أعلى الرتب
وقعت في الشريعة صور كثيرة تقتضي الفرق بين هاتين القاعدتين
أحدها أن من غير وطء والمبتوتة لا يذهب تحريمها إلا بعقد المحلل ووطئه وعقد الأول بعد العدة وهذه رتبة فوق تلك الرتبة الناقلة عن الإباحة بكثير العقد على الأجنبية مباح فترتفع هذه الإباحة بعقد الأب عليها
وثانيها أو المسلم محرم الدم لا تذهب هذه الحرمة إلا بالردة وهي [ ص: 74 ] أسباب عظيمة فإذا أبيح دمه بالردة حرم بالتوبة وفي القصاص بالعفو وفي الزنى بالتوبة على خلاف بين العلماء أما عند زنى بعد إحصان أو قتل نفسا عمدا عدوانا فلا بد من رجمه ولو تاب ووقع الاتفاق فيما علمت على المحارب إذا تاب من قبل أن يقدر عليه أنه يسقط عنه الحد وتزول إباحة دمه والتوبة أيسر من الردة والقتل وأقل تحتيما على العبد مالك
وثالثها الأجنبية لا يزول تحريم وطئها إلا بالعقد المتوقف على إذنها ووليها وصداق وشهود ، وإباحتها بعد العقد يكفي فيها الطلاق فترتفع تلك الإباحة بالطلاق الذي يستقل الزوج به من غير زيادة
ورابعها وهو سبب لطيف وإذا حرم دمه بالتأمين لا يباح إلا بسبب قوي يزيل تلك الإباحة من خروج علينا أو قصد لقتلنا حرابة وخروجنا على الإمام العدل وكذلك تزول إباحة دمه بعقد الجزية فإذا حرم دمه بعقد الجزية لا يباح دمه بكل المخالفات لعقد الجزية بل لا بد من مخالفة قوية كالتمرد على الإمام ونبذ العهد مجاهرة وغير ذلك من الأمور المحتاجة إلى قوة شديدة ومناقشة عظيمة ونظائر هذه القاعدة في الشريعة كثيرة وهذا الفرق واقع فيها بين القاعدتين الخروج من الإباحة إلى التحريم والخروج من التحريم إلى الإباحة وقد رام الأصحاب تخريج الحنث ببعض المحلوف عليه على هذه القاعدة فإن الحنث خروج من الإباحة إلى التحريم فيكفي فيه أيسر سبب فيحنث بجزء المحلوف عليه إذا حلف لا يأكل هذا الرغيف فأكل منه لبابه لأنه على بر وإباحة حتى يحنث ولا يبرأ إذا كان على حنث إلا بفعل الجميع إذا حلف ليأكلنه فلا يبرأ إلا بأكل جميعه لأنه على حنث حتى يبر فهو خارج من حرمة إلى إباحة وهذا التخريج ضعيف فإنهم إن ادعوا هذه القاعدة المتقدمة كلية في الشريعة منعناها لاندراج صورة النزاع فيها فللخصم منعها وهو الحربي مباح الدم تزول إباحته بالتأمين رضي الله عنه ولأن هذه الصورة المتقدمة صورة قليلة ولو كانت كثيرة وضموا إليها أمثالها فالقاعدة أن الدعوة العامة الكلية لا تثبت بالمثل الجزئية فإنها لو انتهت إلى الألف احتمل أنها جزئية لا كلية فكم من جزئية مشتملة على أفراد كثيرة ألا ترى إلى قولنا : كل عدد زوج كلية باطلة بل إنما تصدق جزئية في بعض الأعداد وتلك الأعداد التي هي زوج كثيرة جدا لا يحصى عددها ومع ذلك فالكلية كاذبة لا صادقة . الشافعي
وإن ادعوا أنها جزئية فيحتاجون إلى دليل آخر يوجب كون صورة النزاع كذلك فإن كان ذلك القياس فأين الجامع المناسب لخصوص الحكم السالم عن الفوارق أو الدليل غير القياس فأين هو لا بد من بيانه ، وخرج بعض الأصحاب هذه المسألة على قاعدة الأمر [ ص: 75 ] والنهي فقال إذا حلف ليفعلن فهو كالأمر أو لا يفعل فهو كالنهي والنهي عن الشيء نهي عن أجزائه فيكون فاعل الجزء مخالفا والمخالف حانث فيكون فاعل الجزء حانثا وهو المطلوب وهذه الطريقة أيضا ضعيفة لأن هذه القضية التي ادعاها هذا المخرج منعكسة بل الأمر بالشيء أمر بأجزائه كإيجاب أربع ركعات فإنه إيجاب لكل ركعة منها والنهي عن الشيء ليس نهيا عن أجزائه كالنهي عن خمس ركعات في الظهر ليس نهيا عن الأربع بل الأربع واجبة نعم النهي عن الشيء نهي عن جزيئاته فإن النهي عن مفهوم الخنزير نهي عن كل خنزير الخنزير الطويل والقصير والسمين والهزيل وجميع جزيئات الخنزير والأمر بالماهية الكلية ليس أمرا بجزيئاتها فالأمر بإعتاق رقبة ليس [ ص: 76 ] أمرا بإعتاق هذه الرقبة وتلك وجميع الرقاب بل يكفي في حصول ماهية الرقبة شخص منها واحد معين فشتان ما بين الأجزاء والجزيئات الحكم منعكس بينهما فهذا التخريج باطل قطعا فلا يفتي به فقيه وأحسن ما رأيت للأصحاب في هذه المسألة طريقة الفرض والبناء وهي أن رحمه الله كان يقول هذه المسألة ثلاثة أقسام : المعطوفات نحو . الشيخ أبا عمرو بن الحاجب
والله لا كلمت زيدا وعمرا ، والجموع والتثنيات نحو لا أكلت الأرغفة أو الرغيفين ، وأسماء الحقيقة الواحدة المفردة كالرغيف فهذه الأقسام الثلاثة الخلاف فيها واحد فعند رضي الله عنه لا يحنث إلا بالجميع وعندنا بالبعض في المسائل الثلاثة ، فنقول أجمعنا على ما الشافعي أنه يحنث بأحدهما واتفق النحاة على أن لا إذا أعيدت في العطف أنها مؤكدة للنفي لا منشئة نفيا وكذلك قال الله تعالى { إذا قال الحالف والله لا كلمت زيدا ولا عمرا بصيغة لا النافية وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات [ ص: 77 ] ولا النور ولا الظل ولا الحرور } فذكر لا في البعض دون البعض مع أن الكل منفي فحيث تركت لا كان المعنى مثل الموضع الذي ذكرت فيه لا سواء بسواء غير التوكيد وشأن التوكيد أن تكون الأحكام الثابتة معه ثابتة قبله وإلا كان منشئا لا مؤكدا ولما أجمعنا على أن الحكم التحنيث مع لا المؤكدة وجب أن يكون الحكم قبلها التحنيث تحقيقا لحقيقة التأكيد .
وإذا اتضح الحنث في هذه الصورة بمدرك صحيح مجمع عليه وجب أن يكون الواقع في الصورتين الأخيرتين الحنث لأنه لا قائل بالفرق إذ لو ثبت الحنث في بعضها دون بعض لزم خلاف الإجماع فإن القائل قائلان قائل بالحنث في الجميع وهو وأتباعه وقائل بعدم الحنث في الجميع وهو مالك رضي الله عنه وأصحابه فلو قلنا بأنه في صورة العطف دون غيرها كان قولا خارقا للإجماع ولا سبيل إليه وهذه طريقة الفرض والبناء عند الخلافيين وضابطها أن يكون الإنسان يساعده الدليل في بعض صور النزاع دون بعضها فيفرض الاستدلال في تلك الصورة التي يساعده الدليل عليها فإذا تم له فيها الدليل بنى الباقي من الصور عليها فسمي ذلك طريقة الفرض والبناء وهي ضعيفة بسبب أن المناظر قائم مقام إمامه المجتهد والمجتهد لا يجوز له الاعتماد على قولنا لا قائل بالفرق فإن هذه المقدمة إنما جاءتنا بعد فتياه هو في المسألة ومدركه في المسألة متقدم على فتياه فيها فلما أفتى خصمه وهو المجتهد الآخر وبقي هو لم يفت بعد فله أن يقول ما ظهر بالدليل أي شيء كان لأنه ليس قبل قوله إجماع إنما هو قول خصمه فقط فله هو إذا قال خصمه لا يحنث عندي في الجميع له هو أن يقول يحنث عندي في البعض دون البعض والإجماع يصده حينئذ عن ذلك ولو اعتمد على ما قاله المناظر الآن من قوله لا قائل بالفرق لم يتأت له ذلك ومتى كان مدرك المناظر لا يصح أن يكون مدرك المجتهد لم يصح . نعم هذه الطريقة تتم في المناظرة جدلا بعد تقرر المذاهب أما والمجتهد يجتهد فلا يصح له الاعتماد على ذلك وبالجملة فالمسألة عندنا مشكلة إشكالا قويا فتأمله [ ص: 78 ] الشافعي