( المسألة الثانية ) قال الشيخ أبو الحسن اللخمي المالكي في كتاب الظهار من تبصرته إذا قال قال : أنت طالق اليوم إن كلمت فلانا [ ص: 70 ] غدا ابن عبد الحكم : أن كلمة اليوم حنث وغدا لا يحنث لأن وقوع الطلاق بكلام غد بعد إن كانت اليوم زوجة يقتضي اجتماع العصمة وعدمها فإذا كلمه اليوم اجتمع الشرط والمشروط في ظرف واحد فيمكن ترتب أحدهما على الآخر وقيل : يلزمه الحنث إن كلمه غدا ويقدر تقدم الطلاق في زمن عدمه فيمكن ترتب أحدهما على الآخر وقال ابن القاسم : إذا فإنه إن تزوجها قبل الغد طلقت عليه أو بعده لم تطلق لفوات يوم الطلاق وفي الجواهر إذا قال : إن تزوجتك فأنت طالق غدا تطلق من أوله ولم يحك خلافا فإن كان المعلق عليه القدوم فهو تقديم الحكم على شرطه أو اليوم فلا قال قال : أنت طالق يوم يقدم فلان فيقدم نصف النهار ابن يونس قول ابن عبد الحكم خلاف أصل بل يلزمه الطلاق إذا قال : أنت طالق اليوم إن كلمت فلانا غدا كما تقدم قلت : ومقتضى قول مالك ابن يونس أمران : أحدهما أن المشهور اللزوم خلاف ما نقله اللخمي الثاني أنها تطلق من أول النهار كما تقدم النقل في الجواهر فيتقدم الطلاق على لفظ التعليق وعلى الشرط معا هذه نصوص مذهبنا في هذه المسألة .
وقال الغزالي في الوسيط له إذا لم يقع لأن حكم اللفظ لا يتقدم عليه وقيل : يقع في الحال لأن وقوعه بالأمس يقتضي وقوعه في الحال فيسقط المتعذر ويثبت الحال وقيل : لا يقع شيء لأن حكم اللفظ لا يتقدم عليه . قال : أنت طالق بالأمس وقال : قصدت إيقاع الطلاق بالأمس
وإن إن مات قبل مضي شهر لم يقع طلاق لئلا يتقدم الحكم على اللفظ أو بعد شهر فيقع الطلاق قبله بشهر وكذلك إذا قال : إن مات فلان فأنت طالق قبله بشهر قال : وقال قال : إن قدم فلان أو دخلت الدار فأنت طالق قبله بشهر : يلزم الطلاق في الموت دون الدخول والقدوم قال : وهو تحكم قال أبو حنيفة في المهذب إذا الشيخ أبو إسحاق بطل الخلع لأنا تيقنا تقدم الطلاق الثلاث عليه ثم إنهم أردفوا ذلك بأن قالوا إذا قال : إن قدم زيد فأنت طالق ثلاثا قبل قدومه بشهر ثم خالعها ثم قدم زيد أن العدة تنقضي عند حصول الشرط أو قبله ولا تعتد بعد ذلك لأنا تبينا وقوع الطلاق من سنة كما لو ثبت أنه طلقها من سنة فإنها لا تستأنف عدة ويقتضي قولهم أن يرجع عليها بما كان ينفقه عليها إن كان الطلاق بائنا أو بما أنفقه بعد انقضاء العدة على زعمهم إن كان رجعيا مع أن الأمة مجمعة على أنها زوجة مستقرة العصمة مباحة الوطء إلى حين قدوم زيد . قال : لها إن قدم زيد فأنت طالق قبل قدومه بسنة فقدم بعد ذلك بسنة
وهذا هو الذي صرح لي به أعيانهم ومشايخهم المعاصرون في تقرير هذه المسألة قلت : والحق في هذه المسألة وقوع الطلاق متقدما على القدوم الذي جعل شرطا وعلى لفظ التعليق وزمانه وقولهم حكم اللفظ لا يتقدم عليه لا يتم وقياسهم على قوله أنت طالق [ ص: 71 ] أمس لا يصح وبيان ذلك ببيان ثلاث قواعد : .
القاعدة الأولى أن الأسباب الشرعية : قسمان قسم قدره الله تعالى في أصل شرعه وقدر له مسببا معينا فليس لأحد فيه زيادة ولا نقص كالهلال لوجوب الصوم وأوقات الصلوات والعصم والأملاك في الرقيق والبهائم لوجوب النفقات وعقود البياعات والهبات والصدقات لإنشاء الأملاك وغير ذلك من الأسباب والمسببات . وقسم وكله الله تعالى لخيرة المكلفين .
فإن شاءوا جعلوه سببا وإن شاءوا لم يجعلوه سببا وحصر جعلهم لذلك في طريق واحد وهو التعليق كدخول الدار وقدوم زيد لم يجعل الله ذلك سببا لطلاق امرأة أحد ولا لعتق عبده والمكلف جعل ذلك سببا للطلاق والعتق بالتعليق عليه خاصة فلو قال : جعلته سببا من غير تعليق لم ينفذ ذلك ولم يعتبر فهذا القسم خير الله تعالى فيه وفي مسببه أي شيء شاء المكلف جعله من طلاق أو عتق كثيرا أو قليلا قريب الزمان أو بعيده بخلاف الأول . القاعدة الثانية المقدرات لا تنافي المحققات بل يجتمعان ويثبت مع كل واحد منهما لوازمه وأحكامه ويشهد لذلك مسائل : أحدها أن الأمة إذا اشتراها شراء صحيحا أبيح وطؤها بالإجماع إلى حين الاطلاع على العيب والرد به .
وإن قلنا : الرد بالعيب نقض للعقد من أصله ارتفعت الإباحة المترتبة عليه مع أنها واقعة بالإجماع وكذلك العقد واقع أيضا ورفع الواقع محال عقلا والمحال عقلا لا يرد الشرع بوقوعه فيتعين أن يكون معنى هذا الارتفاع تقديرا لا تحقيقا لأن قاعدة التقادير الشرعية إعطاء الموجود حكم المعدوم أو المعدوم حكم الموجود فيحكم صاحب الشرع بأن العقد الموجود والإباحة المترتبة عليه وجميع آثاره في حكم العدم وإن كانت موجودة ولا تنافي بين ثبوت الشيء حقيقة وعدمه حكما كقربات الكفار والمرتدين موجودة حقيقة ومعدومة حكما والنية في الصلاة إلى آخرها موجودة حكما ومعدومة حقيقة عكس الأول وكذلك الإيمان والإخلاص وغيرهما يحكم بوجودهما وإن عدما عدما حقيقيا وقد بسطت ذلك في كتاب الأمنية في إدراك أحكام النية فظهر أن المقدرات لا تنافي المحققات .
[ ص: 72 ] وثانيها أنه إذا فأعتقه فإنا نقدر دخوله في ملكه قبل عتقه بالزمن الفرد تحقيقا للعتق عنه وثبوت الولاء له مع أن الواقع عدم ملكه له إلى كمال العتق ولم يقل أحد إنا تبينا أنه كان يملكه قبل العتق . وثالثها دية الخطأ تورث عن المقتول ومن ضرورة الإرث ثبوت الملك في الموروث للموروث المقتول فيقدر ملكه للدية قبل موته بالزمن الفرد ليصح الإرث ونحن نقطع بعدم ملكه للدية حال حياته فقد اجتمع الملك المقدر وعدمه المحقق ولم يتنافيا ولا نقول إنا بينا تقدم الملك للدية قبل الموت ورابعها أن صوم التطوع يصح عندهم بنية من الزوال وتنعطف هذه النية تقديرا إلى الفجر مع أن الواقع عدم النية ولا يقال : تبينا أنه كان نوى قبل الفجر لأن الفرض خلافه ونظائر ذلك كثيرة مذكورة في كتاب الأمنية فظهر أن المقدرات لا تنافي المحققات . قال له أعتق عبدك عني
( القاعدة الثالثة ) أن الحكم كما يجب تأخره عن سببه يجب تأخره عن شرطه ومن فرق بينهما فقد خالف الإجماع فلفظ التعليق هو سبب مسببه ارتباط الطلاق بقدوم زيد فالقدوم هو السبب المباشر للطلاق واللفظ هو سبب السبب وعلى هذا يكون أضعف من السبب المباشر فإذا جوزوا تقديمه على السبب القوي فليجز على السبب الضعيف بطريق الأولى وإن جعلوا القدوم شرطا امتنع التقدم أيضا .
[ ص: 73 ] إذا تقررت هذه القواعد فنقول : ليس في تقديم الطلاق على زمن اللفظ وزمن القدوم تقديم للمسبب على السبب ولا المشروط على الشرط لأن عند وجود الشرط الذي هو القدوم مثلا يترتب عليه مشروطه بوصف الانعطاف على الأزمنة التي قبله على حسب ما علقه فهذا الانعطاف متأخر عن الشرط ولفظ التعليق كما أن انعطاف النية عندهم على النصف الأول من النهار إذا وقعت نصف النهار متأخر عن إيقاعها فالانعطاف على الزمان الماضي متأخر عن الشرط وسببه ولا يقال في المنعطفات إنا تبينا تقدم الطلاق حقيقة في الماضي بل لم يكشف الغيب عن طلاق حقيقي في الماضي ألبتة وإنما يحسن ذلك حيث نجهل أمرا حقيقيا ثم نعلمه كما حكمنا بوجوب النفقة بناء على ظهور الحمل ثم ظهر أنه نفخ أو حكمنا بوفاة المفقود ثم علمنا حياته ونحو ذلك أما الانعطافات فليست من هذا القبيل بل نجزم بعد الانعطاف بعدم المنعطف حقيقة في الزمن الذي انعطف فيه وإنما هو ثابت فيه تقريرا وبهذا التقرير يظهر أن العدة من يوم القدوم لأنه يوم لزوم الطلاق وتحريم الفرج أما قبل ذلك فالإباحة بالإجماع والعدة التي أجمعنا عليها هي التي تتبع المحقق لا المقدر .
[ ص: 74 ] ومن الأمور الصعبة التي ألزموها أن الوطء الواقع قبل الانعطاف وطء شبهة لا إباحة محققة ووجود السبب المبيح السالم عن معارضة الطلاق يأبى ذلك فإن قالوا : تقدير الطلاق يمنع ثبوت الزوجية للإباحة قلنا : المقدرات لا تنافي المحققات والتقدير لا ينافي العقد ولا يعارضه في اقتضائه الإباحة فظهر أنه لم يتقدم على الشرط ولا على اللفظ وكيف ينكرون ذلك وهم يقولون : الرد بالعيب نقض للعقل من أصله مع أن الرد بالعيب سبب للنقض وقد تقدم قبله على سبيل الانعطاف وإذا عقلوا ذلك في مواطن فليعقلوها في البقية وأما قياسهم على قوله : أنت طالق منذ شهر فالفرق أن الأسباب الموضوعة في أصل الشرع استقل صاحب الشرع بمسبباتها ولم يجعل فيها انعطافات بل كل سبب يترتب عليه مسببه بعده والتعاليق موكولة لخيرة المكلف ومقتضى التفويض لخيرة المكلف أن له أن يجعل فيها الانعطاف فلا يلزم من التزام الانعطاف حيث خير المكلف أن يلزمه حيث الحجر عليه فلو قال له : بعتك من شهر لم يتقدم الملك شهرا وكذلك بقية الأسباب كما تقدم تقريره في القواعد ولا يلزم من مخالفة اللفظ حيث الحجر أن لا يجري اللفظ على ظاهره ويعمل بمقتضاه حيث عدم المعارض فما ذكرناه أرجح بالأصل ثم إنهم نقضوا أصلهم في المسألة نفسها بتقديمه على القدوم وهو سبب أو شرط للطلاق بل هو السبب القريب واللفظ هو السبب البعيد والجرأة على البعيد أولى .