( الفرق الخامس والتسعون بين قاعدة وبين قاعدة استقبال السمت ) استقبال الجهة في الصلاة
اعلم أنه قد وقع في المذاهب عامة قولهم إن القاعدة أن استقبال الجهة يكفي وآخرون يقولون بل القاعدة أن الكعبة لا بد منه ، وهذه المقالات والإطلاقات في غاية الإشكال بسبب [ ص: 152 ] أمور استقبال سمت
أحدها أن الكلام في هذا إنما وقع فيمن بعد عن الكعبة أما من قرب فإن فرضه استقبال السمت قولا واحدا ، والذي بعد لا يقول أحد إن الله تعالى أوجب عليه استقبال عين الكعبة ومقابلتها ومعاينتها فإن ذلك تكليف ما لا يطاق بل الواجب عليه أن يبذل جهده في تعيين جهة يغلب على ظنه أن الكعبة وراءها ، وإذا غلب على ظنه بعد بذل الجهد في الأدلة الدالة على الكعبة أنها وراء الجهة التي عينتها أدلته ، وجب عليه استقبالها إجماعا فصارت الجهة مجمعا عليها والسمت الذي هو العين والمعاينة مجمع على عدم التكليف به ، وإذا كان الإجماع في الصورتين فأين يكون الخلاف [ ص: 153 ]
وثانيها أن الصف الطويل أجمع الناس على صحة صلاته مع أنه خرج بعضه عن السمت قطعا فإن الكعبة عرضها عشرون ذراعا وطولها خمسة وعشرون ذراعا على ما قيل ، والصف الطويل مائة ذراع فأكثر فبعضه خارج عن السمت قطعا فقولهم إن القاعدة استقبال السمت مشكل . وثالثها أن البلدين المتقاربين يكون استقبالهما واحدا مع أنا نقطع بأنهما أطول من سمت الكعبة ولم يقل أحد بأن صلاة أحدهما صحيحة والأخرى باطلة ولو قيل ذلك لكان ترجيحا من غير مرجح فإنه ليس إحداهما أولى من الأخرى بالبطلان فهذه أمور مجمع عليها كلها وجميعها يقتضي الإشكال على هاتين القاعدتين .
الجواب عنه وهو سر الفرق ما كان يذكره الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله تعالى بعد أن كان يورد هذا الإشكال فلا يجيبه أحد عنه فكان يقول الشيء قد يجب إيجاب الوسائل ، وقد يجب إيجاب المقاصد فالأول كالنظر في أوصاف المياه فإنه واجب وجوب الوسائل فإنه يتوسل به إلى معرفة الطهورية وكالنظر في قيم المتلفات فإنه وسيلة إلى معرفة قيمة المتلف ، وكالسعي إلى الجمعة واجب ؛ لأنه وسيلة إلى إيقاعها في الجامع ، وكذلك السفر إلى الحج وهو كثير في الشريعة ، ومثال ما يجب وجوب المقاصد الصلوات الخمس وصوم رمضان والحج والعمرة والإيمان والتوحيد وغير ذلك مما هو واجب ؛ لأنه مقصد لنفسه لا ؛ لأنه وسيلة لغيره [ ص: 154 ] إذا تقررت هذه القاعدة فاختلف الناس في الجهة هل هي واجبة وجوب الوسائل ، وأن النظر فيها إنما هو لتحصيل عين الكعبة وهو مذهب رحمه الله ، وإذا أخطأ في الجهة وجبت الإعادة ؛ لأن القاعدة أيضا أن الوسيلة إذا لم يحصل مقصدها سقط اعتبارها والنظر في الجهة واجب وجوب المقاصد ، وأن الشافعي الكعبة لما بعدت عن الأبصار جدا ، وتعذر الجزم بحصولها جعل الشرع الاجتهاد في الجهة هو الواجب نفسه ، وهو المقصود دون عين الكعبة فإذا اجتهد ثم تبين خطؤه لا تجب عليه الإعادة .
وهو مذهب رحمه الله تعالى فعلى هذا التقرير يصير الخلاف في السمت هل يجب وجوب المقاصد أو لا يجب ألبتة لا وجوب المقاصد ولا وجوب الوسائل ؛ لأنه ليس وسيلة لغيره قولان وهل تجب الجهة وجوب المقاصد أم وجوب الوسائل قولان هذا هو توجيه القولين في كل واحدة [ ص: 155 ] من القاعدتين فعلى هذا تكون الجهة واجبة بالإجماع إنما الخلاف في صورة وجوبها هل وجوب الوسائل أو المقاصد ، ويكون السمت ليس واجبا مطلقا إلا على أحد القولين فإنه واجب وجوب المقاصد فقول العلماء هل الواجب الجهة أو السمت قولان يصح فيه قيد لطيف فيكون معناه هل الواجب وجوب المقاصد السمت أو الجهة ؟ قولان فبهذا القيد استقام حكاية الخلاف ، واتضح أيضا به تخريج الخلاف هل تجب الإعادة على من أخطأ في اجتهاده أم لا ؟ قولان مبنيان على أن الجهة واجبة وجوب المقاصد ، وقد حصل الاجتهاد فيها وهو الواجب عليه فقط لا شيء وراءه أو واجبة وجوب الوسائل فتجب الإعادة ؛ لأن الوسيلة إذا لم تفض إلى مقصودها سقط اعتبارها واتضح الخلاف والتخريج ، واندفع الإشكال حينئذ بهذا القيد الزائد وبهذا التقرير [ ص: 156 ] مالك
وأما الجواب عن الصف الطويل فهو أن الله تعالى إنما أوجب علينا أن نستقبل الكعبة الاستقبال العادي لا الحقيقي ، والعادة أن الصف الطويل إذا قرب من الشيء القصير الذي يستقبل يكون أطول منه ، ويجد بعضهم نفسه خارجة عن ذلك الشيء المستقبل الذي هو أقصر من الصف الطويل ، وإذا بعد ذلك الصف الطويل بعدا كثيرا عن ذلك الشيء القصير يجد كل واحد ممن في ذلك الصف الطويل نفسه مستقبلا لذلك الشيء القصير في نظر العين بسبب البعد ، ألا ترى أن النخلة البعيدة أو الشجرة إذا استقبلها الركب العظيم الكثير العدد من البعد يجد كل واحد من أهل الركب أو القافلة نفسه قبالة تلك الشجرة ، ويقول الركب بجملته نحن قبالة تلك الشجرة ، ونحن سائرون إليها وإذا قربوا من الشجرة جدا لم يبق قبالتها إلا النفر اليسير من ذلك الركب فكذلك الصف الطويل بمصر أو بخراسان لو كشف الغطاء بينهم وبين الكعبة المعظمة بحيث كان كل واحد منهم يبصر الكعبة لرأى نفسه قبالة الكعبة بسبب البعد كما قلنا في الركب مع الشجرة فقد حصل في حقهم الاستقبال العادي ، وهو المطلوب الشرعي وكذلك نقول في البلدين المتقاربين لو كشف الغطاء بينهما وبين الكعبة لرأى كل واحد منهم نفسه قبالة الكعبة ، فهما كالصف الطويل سواء والجميع مبني على هذه القاعدة وهي أن [ ص: 157 ] الله تعالى إنما أمر بالاستقبال العادي دون الحقيقي مع البعد ومع القرب الواجب الاستقبال الحقيقي .
حتى إنه إذا صف صف مع حائط الكعبة فصادف أحدهم نصفه قبالة الكعبة ونصفه خارجا عنها بطلت صلاته ؛ لأنه مأمور بأن يستقبل بجملته الكعبة فإذا لم يحصل ذلك استدار ، وكذلك الصف الطويل بقرب الكعبة يصلون دائرة أو قوسا إن قصروا عن الدائرة وفي البعد يصلون خطا مستقيما بسبب ما تقدم من التقرير ، وأنهم إذا كانوا خطا مع البعد يكونون مستقبلين عادة بخلافهم مع القرب فقد ظهر الفرق بين قاعدة استقبال السمت وبين قاعدة استقبال الجهة .
وصح جريان الخلاف في ذلك واندفعت الإشكالات التي عليها وهو من المواطن الجليلة التي يحتاج إليها الفقهاء ، ولم أر أحدا حرره هذا التحرير إلا الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله وقدس روحه فلقد كان شديد التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة معقولها ومنقولها ، وكان يفتح عليه بأشياء لا توجد لغيره رحمه الله رحمة واسعة .