( الفرق الرابع والتسعون بين قاعدة ما لا يكون الجهل عذرا فيه وبين قاعدة ما يكون الجهل عذرا فيه )
اعلم أن صاحب الشرع قد تسامح في جهالات في الشريعة فعفا عن مرتكبها ، وأخذ بجهالات [ ص: 150 ] فلم يعف عن مرتكبها الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة ، وما لا يتعذر الاحتراز عنه ، ولا يشق لم يعف عنه ولذلك صور أحدها من وضابط ما يعفى عنه من الجهالات عفي عنه ؛ لأن الفحص عن ذلك مما يشق على الناس وطئ امرأة أجنبية بالليل يظنها امرأته أو جاريته
وثانيها من فهذا جهل يعفى عنه لما في تكرر الفحص عن ذلك من المشقة والكلفة . أكل طعاما نجسا يظنه طاهرا
وكذلك المياه النجسة والأشربة النجسة لا إثم على الجاهل بها
، وثالثها من فإنه لا إثم عليه في جهله بذلك شرب خمرا يظنه جلابا
ورابعها من فإنه لا إثم عليه في جهله به لتعذر الاحتراز عن ذلك في تلك الحالة ، ولو قتله في حالة السعة من غير كشف عن ذلك أثم قتل مسلما في صف الكفار يظنه حربيا
. وخامسها لا إثم عليه في ذلك لتعذر الاحتراز من ذلك عليه ، وقس على ذلك ما ورد عليك من هذا النحو وما عداه فمكلف به ومن أقدم مع الجهل فقد أثم خصوصا في الاعتقادات فإن صاحب الشرع قد شدد في عقائد أصول الدين تشديدا عظيما بحيث إن الإنسان لو بذل جهده واستفرغ وسعه في رفع الجهل عنه في صفة من صفات الله تعالى أو في شيء يجب اعتقاده من أصول الديانات ، ولم يرتفع ذلك الجهل فإنه آثم كافر بترك ذلك الاعتقاد الذي هو من جملة الإيمان ويخلد في النيران على المشهور [ ص: 151 ] من المذاهب مع أنه قد أوصل الاجتهاد حده . الحاكم يقضي بشهود الزور مع جهله بحالهم
وصار الجهل له ضروريا لا يمكنه دفعه عن نفسه ، ومع ذلك فلم يعذر به حتى صارت هذه الصورة فيما يعتقد أنها من باب تكليف ما لا يطاق فإن تكليف المرأة البلهاء المفسودة المزاج الناشئة في الأقاليم المنحرفة عما يوجب استقامة العقل كأقاصي بلاد السودان وأقاصي بلاد الأتراك فإن هذه الأقاليم لا يكون للعقل فيها كبير رونق ، ولذلك قال الله تعالى في بلاد الأتراك عند يأجوج ومأجوج { وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا } ومن لا يفهم القول وبعدت أهليته لهذه الغاية مع أنه مكلف بأدلة الوحدانية ودقائق أصول الدين أنه تكليف ما لا يطاق ، فتكليف هذا الجنس كله من هذا النوع مع أنهم من أهل اليأس بسبب الكفران وقعوا للجهل .
وأما الفروع دون الأصول فقد عفا صاحب الشرع عن ذلك ، ومن بذل جهده في الفروع فأخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران كما جاء في الحديث قال العلماء : ويلحق بأصول الدين أصول الفقه قال أبو الحسين في كتاب المعتمد في أصول الفقه إن أصول الفقه اختص بثلاثة أحكام عن الفقه أن المصيب فيه واحد والمخطئ فيه آثم ، ولا يجوز التقليد فيه وهذه الثلاثة التي حكاها هي في أصول الدين بعينها فظهر لك الفرق بين قاعدة ما يكون الجهل فيه عذرا وبين قاعدة ما لا يكون الجهل فيه عذرا .