( ) الفرق السبعون بين قاعدة اقتضاء النهي الفساد في نفس الماهية وبين قاعدة اقتضاء النهي الفساد في أمر خارج عنها
هذا الفرق بالغ في اعتباره حتى أثبت عقود الربا وإفادتها الملك في أصل المال الربوي ورد الزائد فإذا باع درهما بدرهمين أوجب العقد درهما من الدرهمين ويرد الدرهم الزائد وكذلك بقية الربويات وبالغ قبالته أبو حنيفة في إلغاء هذا الفرق حتى أبطل الصلاة بالثوب المغصوب [ ص: 83 ] والوضوء بالماء المسروق والذبح بالسكين المغصوبة وسوى فيه بين موارد النهي وتوسط أحمد بن حنبل مالك بين المذهبين فأوجبا الفساد في بعض الفروع دون بعض ، وأنا أذكر حجج الفريقين ثم أذيل بمسائل توضح الفرق . والشافعي
احتج رحمه الله بأن النهي إذا كان في نفس الماهية كانت المفسدة في نفس الماهية والمتضمن للمفسدة فاسد فإن النهي إنما يعتمد المفاسد كما أن الأمر إنما يعتمد المصالح كالنهي عن بيع الخنزير والميتة وبيع السفيه ، وتحريره أن أركان العقد أربعة : عوضان وعاقدان فمتى وجدت الأربعة من حيث الجملة سالمة عن النهي فقد وجدت الماهية المعتبرة شرعا سالمة عن النهي فيكون النهي إنما تعلق بأمر خارج عنها ومتى انخرم واحد من الأربعة فقد عدمت الماهية ؛ لأن الماهية المركبة كما تعدم لعدم كل أجزائها تعدم لعدم بعض أجزائها فإذا باع سفيه من سفيه خمرا بخنزير فجميع الأركان معدومة فالماهية معدومة والنهي والفساد في نفس الماهية وإذا باع رشيد من رشيد ثوبا بخنزير فقد فقد ركن من الأربعة وهو أحد العوضين فتكون الماهية معدومة شرعا ولا فرق في ذلك بين واحد من الأربعة أو اثنين أو أكثر . أبو حنيفة
فإذا باع رشيد من رشيد فضة بفضة فالأركان الأربعة موجودة سالمة عن النهي الشرعي فإذا كانت إحدى الفضتين أكثر فالكثرة وصف حصل لأحد العوضين فالوصف متعلق النهي دون الماهية فهذا هو تحرير كون النهي في الماهية أو في أمر خارج عنها وخرج على ذلك جميع عقود الربا وجميع ما هو من هذا الضابط على ما ذكرته في المثال فمتى وجدت الأركان كلها وأجزاء الماهية فالنهي في الخارج ومتى كان النهي في جزء من أجزاء الماهية أو في جميع أجزائها فالنهي في الماهية إذا تقرر هذا قال أصل الماهية سالم عن المفسدة والنهي إنما هو في الخارج عنها فلو قلنا بالفساد مطلقا لسوينا بين الماهية المتضمنة للفساد وبين السالمة عن الفساد ، ولو قلنا بالصحة مطلقا لسوينا بين الماهية السالمة في ذاتها وصفاتها وبين المتضمنة للفساد في صفاتها وذلك غير جائز فإن أبو حنيفة [ ص: 84 ] خلاف القواعد فتعين حينئذ أن يقابل الأصل بالأصل والوصف بالوصف فنقول أصل الماهية سالم عن النهي . التسوية بين مواطن الفساد وبين السالم عن الفساد
والأصل في تصرفات المسلمين وعقودهم الصحة حتى يرد نهي فيثبت لأصل الماهية الأصل الذي هو الصحة ويثبت للوصف الذي هو الزيادة المتضمنة للمفسدة الوصف العارض وهو النهي فيفسد الوصف دون الأصل وهو المطلوب وهو فقه حسن واحتج رضي الله عنه بأن النهي يعتمد المفاسد ومتى ورد نهي أبطلنا ذلك العقد وذلك التصرف بجملته ، فإن ذلك العقد إنما اقتضى تلك الماهية بذلك الوصف أما بدونه فلم يتعرض له المتعاقدان فيبقى على الأصل غير معقود عليه فيرد من يد قابضه بغير عقد ، وكذلك الوضوء بالماء المغصوب معدوم شرعا والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا ومن صلى بغير وضوء حسا فصلاته باطلة ، فكذلك صلاة المتوضئ بالماء المغصوب باطلة وكذلك الصلاة في الثوب المغصوب والمسروق والذبح بالسكين المغصوبة والمسروقة فهي كلها معدومة شرعا فتكون معدومة حسا ومن فرى الأوداج بغير أداة حسا لم تؤكل ذبيحته فكذلك ذبيحة الذابح بسكين مغصوبة وعلى هذا المنوال . أحمد بن حنبل
وأما نحن فتوسطنا بين المذهبين فقلنا بالفساد لأجل النهي عن الوصف في مسائل دون مسائل ولنذكر من ذلك ثلاث مسائل [ ص: 85 ] المسألة الأولى ) قلنا نحن والشافعية والحنفية بصحتها وقال الحنابلة ببطلانها فنحن نلاحظ أن متعلق الأمر قد وجد فيها بكماله مع متعلق النهي فالصلاة من حيث هي صلاة حاصلة غير أن المصلي جنى على حق صاحب الدار فالنهي في المجاور والحنابلة مشوا على أصلهم في التسوية بين الأصل والوصف . الصلاة في الدار المغصوبة
( المسألة الثانية ) عندنا صحت طهارته وصلاته وعند الحنابلة تبطل والمدرك عندنا أنه محصل للطهارة بكمالها على الوجه المطلوب شرعا وإنما هو جان على حق صاحب الخف كالصلاة في الدار المغصوبة وبهذه القاعدة يظهر الفرق بين هذا الفرع وبين غاصب الخف إذا مسح عليه أن المحرم مخاطب في طهارته بالغسل ولم يأت به فلم تحصل به حقيقة المأمور به بكماله بخلاف الغاصب حصل حقيقة المأمور به بكماله مع حقيقة النهي فكان النهي في المجاور ، وكثيرا ما يسأل عن الفرق بين هاتين المسألتين فيفرق بينهما بأمور وعبارات ليس فيها إبانة عن المقصود وسر الفرق ما ذكرته لك من وجود كمال حقيقة المأمور به في الغاصب وعدم وجودها في المحرم ففي صورة الغاصب نهي عن مجاور وفي صورة المحرم عدم المأمور به فبقيت الذمة مشغولة بالمأمور فالبابان مختلفان من هذا الوجه وإن اشتركا في أن كل واحد منهما عاص باللبس المحرم إذا مسح على الخف
. ( المسألة الثالثة ) كل هذه المسائل عندنا سواء في الصحة خلافا الذي يصلي في ثوب مغصوب أو يتوضأ بماء مغصوب أو يحج بمال حرام والعلة وما تقدم أن حقيقة المأمور به من الحج والسترة وصورة التطهر قد وجدت من حيث المصلحة لا من حيث الإذن الشرعي وإذا حصلت حقيقة المأمور به من حيث المصلحة كان النهي مجاورا وهي الجناية على الغير كما في الدار المغصوبة فإن قلت لا نسلم وجود حقيقة المأمور به ؛ لأن المعدوم شرعا كالمعدوم حسا فتكون السترة معدومة حسا مع العمد وذلك مبطل للصلاة وكذلك الوضوء بعين هذا التقرير ولا يمكنني أن أقول ذلك في الحج فإن النفقة لا تعلق لها بالحج ؛ لأنها ليست ركنا ولا صرفت في ركن بل نفقة [ ص: 86 ] الطريق لحفظ حياة المسافر بخلاف المحرم هاهنا صرف فيما هو شرط فكان الشرط معدوما لأحمد قلت نمنع أن الله تعالى أمر بالطهارة والسترة واشترط فيهما أن تكون الأداة مباحة بل حرم الغصب مطلقا وأوجب الطهارة مطلقا ولم يقيد واحدا منهما ألبتة فكما يتحقق الغصب وإن قارن مأمورا يتحقق المأمور وإن قارن تحريما فما أمر الله تعالى إلا بالصلاة ولم يشترط فيها بقعة مباحة بل أوجب الصلاة مطلقا وحرم الغصب ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون عدمه شرطا كما أنه لو لم تبطل صلاته . سرق في صلاته
وكذلك لو لم تبطل صلاته مع مقارنة المحرم فكذلك في هذه المواطن فإن قلت فما الفرق بين هذه المسائل وبين مسائل الربا ولم لا وافقت الحنفية في تصحيح العقد فيها كما صحت العبادة مع ثبوت النهي في الوصف وفي الجميع النهي في الوصف دون الأصل والحنفية طردت أصلها وأنت لم تطرد أصلك ، وكذلك الشافعية عزم في صلاته على قتل إنسان قلت السر في ذلك أن تلك الحقائق متعلقات العقود والرضا لم يحصل إلا بمقابلة الواحد بالاثنين فلو صححنا العقد في البعض لنقلنا ملك البائع بغير رضاه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { } وهذا لم تطب نفسه إلا بما تعلق العقد به فكان الدرهم الباقي بعد إسقاط الدرهم الزائد باقيا على ملك باذله لعدم تناول العقد مقابلته بمثله بل بمثليه ، وأما في هذه الصور حيث قلت بالصحة فالموجود كمال متعلق الأمر فقلت بالصحة لكمال وجود المتعلق وهناك لم يوجد كمال المتعلق وهذا فرق جلي جليل فإن قلت من رضي بأن يكون درهمان من عنده بإزاء درهم فقد رضي بأن يكون درهم واحد من قبله بإزاء درهم واحد بطريق الأولى فقوله لم يحصل الرضا ممنوع بل الرضا حاصل . لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه
قلت الجواب عن هذا السؤال من وجهين الأول هب أن باذل الدرهمين راض فباذل الدرهم غير راض ببذله بإزاء درهم واحد وإنما رضي ببذله بإزاء درهمين سلمنا حصول الرضا لكن الرضا لا يكفي وحده في نقل الأملاك فإنه لو رضي بنقل ملكه وهو ساكت من غير قول ولا فعل ولم ينتقل ملكه فيما علمته إجماعا بل لا بد من عقد أو ما يقوم مقامه ، أما الرضا وحده فليس هو سببا شرعيا بل السبب الشرعي هو الدال على الرضا وهذا السبب له متعلق ولم يوجد فوجب أن لا يقضى باللزوم حينئذ فهذا هو سر الفرق بين الربويات والعبادات فتأمل ذلك فهو حسن