الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 50 ] ( الفرق الخامس والستون بين قاعدة ما يثاب عليه من الواجبات وبين قاعدة ما لا يثاب عليه منها وإن وقع ذلك واجبا )

اعلم أن المأمورات قسمان ما صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون ورد الغصوب ودفع الودائع ونفقات الزوجات والأقارب والدواب ونحو ذلك صورة هذا الفعل تحصل مقصودة وإن لم يحصل به التقرب فإذا فعل ذلك من غير قصد ولا نية وقع ذلك واجبا مجزئا ولا يلزم فيه الإعادة ولا ثواب فيه حتى ينوي به امتثال أمر الله تعالى فإن فعله غير قاصد امتثال أمر الله تعالى ولا عالم به لم يحصل له ثواب وإن سد الفعل مسده ووقع واجبا ومن هذا الباب النية لا يقصد بها التقرب وتقع واجبة ولا تفتقر إلى نية أخرى وكذلك النظر الأول أفضى إلى العلم بإثبات الصانع لا يثاب عليه ؛ لأنه لا يقصد به التقرب [ ص: 51 ] والقسم الآخر لا يقع واجبا إلا مع النية والقصد كالصلاة والصيام والحج والطهارات وجميع أنواع العبادات التي يشترط فيها النيات فهذا القسم إذا وقع بغير نية لا يعتد به ولا يقع واجبا ولا يثاب عليه وإذا وقع منويا على الوجه المشروع كان قابلا للثواب وهو سبب شرعي له من حيث الجملة غير أن هاهنا قاعدة وهي أن القبول غير الإجزاء وغير الفعل الصحيح فالمجزئ من الأفعال هو ما اجتمعت شرائطه وأركانه وانتفت موانعه فهذا يبرئ الذمة بغير خلاف ويكون فاعله مطيعا بريء الذمة فهذا أمر لازم مجمع عليه ، وأما الثواب عليه فالمحققون على عدم لزومه وأن الله تعالى قد يبرئ الذمة بالفعل ولا يثيب عليه في بعض الصور وهذا هو معنى القبول ويدل على ذلك أمور أحدها :

قوله تعالى حكاية عن ابني آدم { إنما يتقبل الله من المتقين } لما قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر مع أن قربانه كان على وفق الأمر ويدل عليه أن أخاه علل عدم القبول بعدم التقوى ولو أن الفعل مختل في نفسه لقال له إنما يتقبل الله العمل الصحيح الصالح ؛ لأن هذا هو السبب القريب لعدم القبول فحيث عدل عنه دل ذلك على أن الفعل كان صحيحا مجزئا وإنما انتفى القبول لأجل انتفاء التقوى فدل ذلك على أن العمل المجزئ قد لا يقبل وإن برئت الذمة به وصح في نفسه [ ص: 52 ] وثانيها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم } فسؤالهما القبول في فعلهما مع أنهما صلوات الله عليهما وسلامه لا يفعلان إلا فعلا صحيحا يدل على أن القبول غير لازم من الفعل الصحيح ولذلك دعوا به لأنفسهما .

وثالثها : الحديث الصحيح خرجه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { أما من أسلم وأحسن في إسلامه فإنه يجزى بعمله في الجاهلية والإسلام } فاشترط في الجزاء الذي هو الثواب أن يحسن في الإسلام والإحسان في الإسلام هو التقوى وهو يرد على من قال في قوله تعالى { إنما يتقبل الله من المتقين } أن المراد المؤمنون ؛ لأنه عليه السلام صرح بالإسلام ثم ذكر الإحسان فيه .

ورابعها : قوله عليه السلام في الأضحية لما ذبحها { اللهم تقبل من محمد وآل محمد } فسأل عليه السلام القبول مع أن فعله في الأضحية كان على وفق الشريعة فدل ذلك على أن القبول [ ص: 53 ] وراء براءة الذمة والإجزاء وإلا لما سأله عليه السلام فإن سؤال تحصيل الحاصل لا يجوز .

وخامسها : أنه لم يزل صلحاء الأمة وخيارها يسألون الله تعالى القبول في العمل ولو كان ذلك طلبا للصحة والإجزاء لكان هذا الدعاء إنما يحسن قبل الشروع في العمل فيسأل الله تعالى تيسير الأركان والشرائط وانتفاء الموانع أما بعد الجزم بوقوعها فلا يحسن ذلك فدلت هذه الوجوه على أن القبول غير الإجزاء وغير الصحة وأنه الثواب .

وسادسها : قوله عليه السلام { إن من الصلاة لما يقبل نصفها وثلثها وربعها وإن منها لما يلف كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجه صاحبها } فحمله الصوفية وقليل من الفقهاء على عدم الإجزاء وأنه تجب الإعادة إذا غفل عن صلاته لقوله صلى الله عليه وسلم { ليس للمؤمن من صلاته إلا ما عقل منها } وحكى الغزالي الإجماع في إجزائها إذا علم عدد ركعاتها وأركانها وشرائطها وإن كان غير مشتغل بالخشوع والإقبال عليها .

وقال أكثر الفقهاء إن المراد بالثلث وبالربع ونحوه الثواب لا الإجزاء والصحة فظهر حينئذ أن القبول غير الإجزاء وأن بعض الواجبات يثاب عليها دون بعض وهو المقصود من الفرق إذا تقرر الفرق فالظاهر أن وصف التقوى شرط في القبول بعد الإجزاء والتقوى هاهنا ليس محمولا على المعنى اللغوي وهو مجرد الاتقاء للمكروه من حيث الجملة فإن الفسقة في عرف الشرع لا يسمون أتقياء ولا من المتقين ولو اعتبرنا المعنى اللغوي لقيل لهم ذلك بل التقوى في [ ص: 54 ] عرف الشرع المبالغة في اجتناب المحرمات وفعل الواجبات حتى يكون ذلك الغالب على الشخص ، هذا هو الظاهر وإذا حصل هذا الوصف ينبغي أن يعتقد أيضا أن القبول غير لازم بل المحل قابل له لحصول الشرط وأن القبول مشروط بالتقوى ولا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط ويدل على أن المحل يبقى قابلا للقبول من غير لزومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بالقبول مع أنه سيد المتقين وكذلك إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والمدعو به لا بد وأن يكون بصدد الوقوع وعدمه ؛ إذ لو تعين وقوعه لكان ذلك طلبا لتحصيل الحاصل وهو غير جائز فتعين أن يكون الثواب يمكن حصوله وعدم حصوله [ ص: 55 ] وعلى هذه المدارك وهذه التقادير يكون قوله تعالى { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها } مشروطا بالتقوى فإن أمثال العشر هي المثوبات ولا تحصل إلا للمتقين ، وكذلك قوله عليه السلام { صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة في غيره إلا المسجد الحرام } فإن هذه الألف والزائد عليها هي مثوبات تتضاعف ، وقوله عليه السلام { صلاة في المسجد الحرام خير من ألف صلاة في غيره وصلاة في بيت المقدس بستمائة صلاة } وقوله تعالى { والله يضاعف لمن يشاء } يقتضي ما تقدم من التقرير أن يكون هذا كله مشروطا بالتقوى وقوله عليه السلام { صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بخمس أو سبع وعشرين درجة } فتأمل ذلك فإن هذه الظواهر كلها تقتضي المثوبات مطلقا وما تقدم من التقدير يقتضي أنها لا تحصل إلا بالتقوى فيتعين رد أحد الظاهرين إلى الآخر وأن يجمع بينهما على الوجه الأسد وقد بينت لك وجه التعارض ووجه الجمع فتأمل ذلك فهو موضع صعب مشكل والذي رأيت عليه جماعة من المحققين هو ما ذكرته لك فتأمله .

التالي السابق



الخدمات العلمية