( الفرق السابع والخمسون بين قاعدة تداخل الأسباب وبين قاعدة تساقطها )
اعلم أن قد استويا في أن الحكم لا يترتب على السبب الذي دخل في غيره ولا على السبب الذي سقط بغيره فهذا هو وجه الجمع بين القاعدتين والفرق بينهما أن التداخل بين الأسباب معناه أن يوجد سببان مسببهما واحد فيترتب عليهما مسبب واحد مع أن كل واحد منهما يقتضي مسببا من ذلك النوع ومقتضى القياس أن يترتب من ذلك النوع مسببان وقد وقع الأول في كثير من الصور والثاني أيضا واقع في الشريعة وهو الأكثر أما التداخل الذي هو أقل فقد وقع في الشريعة في ستة أبواب : التداخل والتساقط بين الأسباب
الأول : الطهارات كالوضوء والغسل إذا تكررت أسبابهما المختلفة كالحيض والجنابة أو المتماثلة كالجنابتين والملامستين في الوضوء فإنه يجزئ وضوء واحد وغسل واحد ودخل أحد السببين في الآخر فلم يظهر له أثر وكالوضوء مع الغسل فإن سبب الوضوء الذي هو الملامسة اندرج في الجنابة فلم يترتب عليه وجوب وضوء وأجزأه الغسل ، الثاني : الصلوات كتداخل تحية المسجد مع صلاة الفرض مع تعدد سببهما فيدخل دخول المسجد الذي هو سبب التحية في الزوال الذي هو سبب الظهر مثلا فيقوم سبب الزوال مقام سبب الدخول فيكتفى به ، الثالث : الصيام كصيام رمضان مع صيام الاعتكاف ، فإن الاعتكاف سبب لتوجه الأمر بالصوم ورؤية هلال رمضان سبب توجه الأمر بصوم رمضان فيدخل سبب الاعتكاف في سبب رؤية الهلال ويتداخل الاعتكاف ورؤية الهلال .
الرابع : الكفارات في الأيمان على المشهور في حل الأيمان على التكرار دون الإنشاء بخلاف تكرار الطلاق يحمل على الإنشاء حتى يريد التكرار وفي كفارة إفساد رمضان إذا تكرر الوطء منه في اليوم الواحد عندنا على الخلاف وعند في اليومين وله [ ص: 30 ] قولان في الرمضانين ، الخامس : الحدود المتماثلة وإن اختلفت أسبابها كالقذف وشرب الخمر أو تماثلت كالزنى مرارا والسرقة مرارا والشرب مرارا قبل إقامة الحد عليه وهي من أولى الأسباب بالتداخل ؛ لأن تكررها مهلك ، السادس : الأموال كالواطئ بالشبهة المتحدة إذا تكرر الوطء فإن كل وطأة لو انفردت أوجبت مهرا تاما من صداق المثل ولا يجب في ذلك إلا صداق واحد وكدية الأطراف مع النفس فإنه إذا قطع أطرافه وسرى ذلك لنفسه اكتفى صاحب الشرع بدية واحدة للنفس مع أن الواجب قبل السريان نحو عشر ديات بحسب تعدد العضو المجني عليه ومع ذلك يسقط الجميع ولا يلزم إلا دية واحدة تفريع على هذا قد يدخل القليل مع الكثير كدية الأصبع مع النفس والكثير مع القليل كدية الأطراف مع النفس والمتقدم مع المتأخر كحدث الوضوء مع الجنابة والمتأخر مع المتقدم كالوطآت المتأخرة مع الوطأة المتقدمة الأولى . أبي حنيفة
وموجبات أسباب الوضوء والغسل مع اندراجه في الموجب الأول والطرفان في وسط كاندراج الوطأة الأولى والآخرة في وطء الشبهة فإنها قد توطأ أولا وهي مريضة الجسم عديمة المال ثم تصح وترث مالا عظيما ثم تسقم في جسمها ويذهب مالها وهي توطأ في تلك الأحوال كلها بشبهة واحدة فإنها يجب لها عند صداق المثل في أعظم أحوالها وأعظم أحوالها في هذه الصورة الحالة الوسطى فيجب الصداق باعتبارها وتدخل فيها الحالة الأولى والحالة الأخيرة فيندرج الطرفان في الوسط وهذا المثال إنما يجب على مذهب الشافعي وأما على مذهب الشافعي فإنما يعتبر الوطأة الأولى كيف كانت وكيف صادفت ويندرج ما بعدها فيها وتكون عنده من باب اندراج المتأخر في المتقدم لا من باب اندراج الطرفين في الوسط . مالك
وأما القسم الذي هو أكثر في الشريعة وهو عدم التداخل مع تماثل الأسباب فكالإتلافين يجب بهما ضمانان ولا يتداخلان وكالطلاقين يتعدد أثرهما ولا يتداخلان بل ينقص كل طلاق من العصمة طلقة إلا أن ينوي التأكيد أو الخبر عن الأول والزوالين فإنهما يوجبان ظهرين وكذلك بقية أوقات الصلوات وأسبابها وكالنذرين يتعدد منذورهما ولا يتداخل وكالوصيتين بلفظ واحد لشخص واحد فإنه يتعدد له الموصى به على الخلاف وكالسببين لرجل واحد أو رجلين بمعنى واحد أو مختلف فإنه يوجب تعدد التعزير والمؤاخذة وكما لو فإنه يحمل على شهرين وكما لو استأجر منه شهرا ثم استأجر منه شهرا ولم يعين فإنه يحمل على صاعين وهو كثير جدا في الشريعة ، الأصل أن يترتب على كل سبب مسببه ، والتداخل على خلاف الأصل . اشترى منه صاعا من هذه الصبرة ثم اشترى منه صاعا من هذه الصبرة
وأما هذا هو ضابط هذا القسم وهو قسمان : تارة يقع الاختلاف في جميع الأحكام وتارة في البعض . تساقط الأسباب فإنما يكون عند التعارض وتنافي المسببات بأن يكون أحد السببين يقتضي شيئا والآخر يقتضي ضده فيقدم صاحب الشرع الراجح منهما على المرجوح فيسقط المرجوح أو يستويان [ ص: 31 ] فيتساقطان معا
أما القسم الأول وهو التنافي في جميع الأحكام فكالردة مع الإسلام والقتل والكفر مع القرابة الموجبة للميراث فإنهما يقتضيان عدم الإرث وكالدين مسقط للزكاة وأسبابها توجبها ، وكالبينتين إذا تعارضتا أو الأصلين إذا قطع رجل ملفوف في الثياب فتنازع هو والولي في كونه كان حيا حالة الجناية فالأصل بقاء الحياة والأصل أيضا عدم وجوب القصاص والغالبين وهما الظاهران كاختلاف الزوجين في متاع البيت فإن اليد للرجل ظاهرة في الملك وكون المدعي فيه من قماش النساء دون الرجال ظاهر في كونه للمرأة دون الرجل فقدمنا نحن هذا الظاهر وسوى بينهما بناء على أن لهما معا يدا وهي ظاهرة في الملك الشافعي يقول اليد خالصة بالرجل ؛ لأنه صاحب المنزل . ومالك
وكذلك إذا كان المتاع يصلح لهما قدم ملك الرجل فيه بناء على اختصاصه باليد وكالمنفردي ن برؤية الهلال والسماء مصحية والمصر كبير قدم ملك ظاهر العدالة ، وقدم ظاهر الحال وقال الظاهر كذبهما ؛ لأن العدد العظيم مع ارتفاع الموانع يقتضي أن يراه جمع عظيم فانفراد هذين دليل كذبهما ولم يوجب الصوم بشهادتهما ، والأصل والظاهر كالمقبرة المنبوشة الأصل عدم النجاسة والظاهر عدم وجودها بسبب النبش فهذه الأقسام كلها متنافية من جميع الوجوه في مسبباتها . سحنون
وأما التساقط بسبب التنافي في بعض الوجوه وفي بعض الأحكام كالنكاح مع الملك إذا عقد على أمته فإن النكاح يوجب إباحة الوطء والملك يوجب مع ذلك ملك الرقبة والمنافع فسقط النكاح تغليبا للملك بسبب قوته وتكون الإباحة الحاصلة مضافة للملك فقط ولا يحصل تداخل فلا يقال هي مضافة لهما ألبتة وكما إذا فإن النكاح السابق يقتضي الإباحة وكذلك الشراء اللاحق يقتضي الإباحة مع بقية آثار الملك فأسقط الشرع النكاح السابق بالملك اللاحق عكس القسم الأول فإن الأول قدم فيه السابق وهذا قدم فيه اللاحق . اشترى امرأته وصيرها أمته
والفرق أن الملك أقوى من النكاح لاشتماله على إباحة الوطء وغيره فلما كان أقوى قدمه صاحب الشرع سابقا ولاحقا ولاحظنا أن السابق يقدم بحصوله في المحل وسبقه وإلا لاندفع الشراء عن الزوجة وبقيت زوجة وبطل البيع لكن السر ما ذكرته لك ، ومن ذلك علم الحاكم مع البينة إذا شهدت بما يعلمه فإن الحكم مضاف للبينة دون علمه عند والقضاء بالعلم ساقط حذرا من القضاة السوء وسدا لذريعة الفساد على الحكم بالتهم وعلى الناس بالقضاء عليهم بالباطل وعند مالك علمه مقدم على البينة ؛ لأن البينة لا تفيد إلا الظن والعلم أولى من الظن ويحتمل مذهبه أنه يجمع بينهما ويجعل الحكم مضافا إليهما لعدم التنافي بينهما ومن ذلك من وجد في حقه سببان [ ص: 32 ] للتوريث بالفرض في أنكحة الشافعي المجوس فإنه يرث بأقواهما ويسقط الآخر مع أن كليهما يقتضي الإرث كالابن إذا كان أخا لأم كما إذا تزوج أمه فولدها حينئذ ابنه وهو أخوه لأمه فإنه يرث بالبنوة وتسقط الأخوة أما إن كانا سببين الفرض والتعصيب فإنه يرث بهما كالزوج ابن عم يأخذ النصف بالزوجية والنصف الآخر بكونه ابن عم فهذه مثل ومسائل توجب الفرق بين قاعدة تداخل الأسباب وتساقطها على اختلاف التداخل والتساقط .