[ ص: 190 ] ( الفرق الحادي والثلاثون بين قاعدة حمل المطلق على المقيد في الكلي وبين قاعدة حمل المطلق على المقيد في الكلية وبينهما في الأمر والنهي والنفي ) . اعلم أن العلماء أطلقوا في كتبهم وحكوا فيه الخلاف مطلقا وجعلوا أن حمل المطلق على المقيد يفضي إلى العمل بالدليلين دليل الإطلاق ودليل التقييد وأن عدم الحمل يفضي إلى إلغاء الدليل الدال على التقييد وليس الأمر كما قالوا على الإطلاق بل هما قاعدتان متباينتان في هذه الأبواب المتقدم ذكرها وبيان ذلك أن صاحب الشرع إذا قال اعتقوا رقبة ثم قال في موطن آخر رقبة مؤمنة فمدلول قوله رقبة كلي وحقيقة مشترك فيها بين جميع الرقاب وتصدق بأي فرد وقع منها فمن أعتق سعيدا فقد أعتق رقبة ووفى مقتضى هذا اللفظ فإذا أعتقنا رقبة مؤمنة فقد وفينا بمقتضى الإطلاق وهو مفهوم الرقبة وبمقتضى التقييد وهو وصف الأيمان فكنا جامعين بين الدليلين وهذا كلام حق أما إذا ورد أمر صاحب الشرع بإخراج الزكاة من كل أربعين شاة شاة [ ص: 191 ] كما جاء في الحديث { حمل المطلق على المقيد } ثم ورد بعد ذلك قوله عليه السلام { في كل أربعين شاة شاة } فمن قصد في هذا المقام حمل المطلق الأول الذي هو الغنم على هذا القيد الذي هو الغنم السائمة اعتمادا منه على أنه من باب حمل المطلق على المقيد فقد فاته الصواب بسبب أن الحمل هنا يوجب أن المقيد خصص المطلق وأخرج منه جميع الأغنام المعلوفة والعموم يتقاضى وجوب الزكاة فيها فليس جامعا بين الدليلين بل تاركا لمقتضى العموم وحاملا له على التخصيص مع إمكان عدم التخصيص فلا يكون الدليل الدال على حمل المطلق على المقيد موجودا ههنا وهو الجمع بين دليل الإطلاق ودليل التقييد في الغنم السائمة الزكاة فقد أخطأ بل هذا يرجع إلى قاعدة أخرى وهي تخصيص العموم بذكر بعضه والصحيح عند العلماء أنه باطل لأن البعض لا ينافي الكل أو من قاعدة تخصيص العموم بالمفهوم الحاصل من قيد السوم وفيه خلاف . ومن أثبت الحكم بدون موجبه ودليله
أما أنه من باب حمل المطلق على المقيد فلا لأنه كلية ولفظ عام وإنما يستقيم حمل المطلق في الكلي المطلق لا في الكلية لما تقدم من الفرق وكذلك وقع في كتب العلماء التسوية بين الأمر والنهي في حمل المطلق على المقيد وليس كذلك فإن صاحب الشرع لو قال لا تعتقوا رقبة ثم قال لا تعتقوا رقبة كافرة كان اللفظ الأول من صيغ العموم لأن النكرة في سياق النهي كالنكرة في سياق النفي تعم فيكون اللفظ الثاني لو حملنا الأول عليه مخصصا للأول فإنه يخرج [ ص: 192 ] الرقاب المؤمنة على امتناع العتق والعموم يتقاضاه فلم يكن فيه جمع بين الدليلين بل التزام للتخصيص بغير دليل وإلغاء للعموم من غير موجب بخلاف هذه النكرة لو كانت في سياق الأمر فإنها حينئذ لا تكون عامة بل مطلقة فيكون حملها على نص التقييد جمعا بين الدليلين وظهر أيضا الفرق بين الأمر والنهي والإمام فخر الدين في المحصول وغيره من العلماء نص على التسوية بينهما وليسا بمستويين فتأمل ذلك كما بينته لك فيتحصل من هذا المبحث أن حمل المطلق على المقيد إنما يتصور في كلي دون كلية وفي مطلق دون عموم وفي الأمر وخبر الثبوت دون النهي وخبر النفي لأن خبر النفي كقولنا ليس في الدار أحد يقع نكرة في سياق النفي فيعم فيئول الحال إلى الكلية دون الكلي وخبر الثبوت هو كالأمر نحو في الدار رجل فإنه مطلق كلي لا كلية لأن النكرة لا تعم في سياق الثبوت وإذا تقرر الفرق واتضح الحق فهاهنا أربع مسائل .
( المسألة الأولى )
الحنفية لا يرون حمل المطلق على المقيد خلافا للشافعية وكان قاضي القضاة صدر الدين الحنفي يقول إن الحنفية تركوا أصلهم لا لموجب فيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { } فقوله { إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب وورد أولاهن بالتراب } مطلق وقوله عليه السلام { إحداهن } مقيد بكونه أولا ولم يحملوا المطلق على المقيد فيعينوا الأولى بل أبقوا الإطلاق على إطلاقه وكان يورد هذا السؤال على الشافعية فيعسر عليهم الجواب عنه فسمعته يوما يورده فقلت له هذا لا يلزمهم لأجل قاعدة [ ص: 193 ] أصولية مذكورة في هذا الباب وهي أنا إذا قلنا بحمل المطلق على المقيد فورد المطلق مقيدا بقيدين متضادين فتعذر الجمع بينهما تساقطا فإن اقتضى القياس الحمل على أحدهما ترجح وفي هذا الحديث ورد المطلق فيه مقيدا بقيدين متضادين فورد أولاهن وورد أخراهن فتساقطا وبقي إحداهن على إطلاقه فلم يخالف الشافعية أصولهم وأما أصحابنا المالكية فلم يعرجوا على هذا الحديث المطلق ولا على قيديه بل اقتصروا على سبع من غير تراب ، وأنا متعجب من ذلك مع وروده في الأحاديث الصحيحة . أولاهن
( المسألة الثانية ) ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله { } وأخذ صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع ما لم يقبض بعموم هذا الحديث وورد أيضا نهيه عن الشافعي فخصص أصحابنا المنع بالطعام خاصة وجوزوا بيع غيره قبل قبضه واختلفت مداركهم في ذلك فمنهم من يقول هو من باب حمل المطلق على المقيد فيحمل الإطلاق في الحديث الأول على التقييد في الحديث الثاني ومنهم من يقول الأول عام والثاني خاص وإذا تعارض العام والخاص قدم الخاص على العام والمدركان باطلان أما الأول فلأنه وقد تقدم أن المطلق إنما يحمل على المقيد في الكلي دون الكلية وهذا الحديث الأول عام فهو كلية فلا يصح فيه حمل المطلق على المقيد وأما المدرك الثاني فهو من باب تخصيص العموم بذكر بعضه وهو باطل كما تقرر في أصول الفقه فإنه لا منافاة بين ذكر الشيء وذكر بعضه والطعام هو بعض ما تناوله العموم الأول فلا يصح تخصيصه فيه فبقيت المسألة مشكلة علينا ويظهر أن الصواب مع بيع الطعام قبل قبضه . الشافعي
( المسألة الثالثة ) قال مالك وقال من ارتد حبط عمله بمجرد ردته لا يحبط عمله إلا بالوفاة على الكفر لأن قوله تعالى { الشافعي لئن أشركت ليحبطن عملك } وإن كان مطلقا [ ص: 194 ] وتمسك به على إطلاقه غير أنه قد ورد مقيدا في قوله تعالى في الآية الأخرى { مالك ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } فيجب حمل المطلق على المقيد فلا يحبط العمل إلا بالوفاة على الكفر والجواب أن الآية الثانية ليست مقيدة للآية الأولى لأنها رتب فيها مشروطان وهما الحبوط والخلود على شرطين وهما الردة والوفاة على الكفر وإذا رتب مشروطان على شرطين أمكن التوزيع فيكون الحبوط المطلق الردة والخلود لأجل الوفاة على الكفر فيبقى المطلق على إطلاقه ولم يتعين أن كل واحد من الشرطين شرط في الإحباط فليست هاتان الآيتان من باب حمل المطلق على المقيد فتأمل ذلك فهو من أحسن المباحث سؤالا وجوابا .
( المسألة الرابعة ) ورد قوله عليه السلام { } وورد { جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا } قال الشافعي رضي الله عنه هذا من باب المطلق والمقيد فيحمل الأول على الثاني فلا يجوز وترابها طهورا وهذا لا يصح فإن الأول عام كلية لا يصح فيه حمل المطلق على المقيد لما تقدم أن ذلك لا يصح إلا في الكلي دون الكلية وهو أيضا من باب تخصيص العموم بذكر بعضه وهو أيضا باطل فأصاب التيمم بغير التراب من الإشكال في هذه المسألة ما أصاب أصحابنا في مسألة بيع الطعام قبل قبضه حرفا بحرف . الشافعي