[ ص: 161 ] ( الفرق السادس والعشرون بين قاعدة خطاب التكليف وقاعدة خطاب الوضع ) وهذا الفرق أيضا عظيم القدر جليل الخطر وبتحقيقه تنفرج أمور عظيمة من الإشكالات وترد إشكالات عظيمة أيضا في بعض الفروع وسأبين لك ذلك في هذا الفرق إن شاء الله تعالى وتحرير القاعدتين أن في اصطلاح العلماء هو الأحكام الخمسة الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة مع أن أصل هذه اللفظة أن لا تطلق إلا على التحريم والوجوب لأنها مشتقة من الكلفة ، والكلفة لم توجد إلا فيهما لأجل الحمل على الفعل أو الترك خوف العقاب وأما ما عداهما فالمكلف في سعة لعدم المؤاخذة فلا كلفة حينئذ غير أن جماعة يتوسعون في إطلاق اللفظ على الجميع تغليبا للبعض على البعض فهذا خطاب التكليف وأما خطاب التكليف فهو خطاب بنصب الأسباب كالزوال ورؤية الهلاك ونصب الشروط كالحول في الزكاة والطهارة في الصلاة ونصب الموانع كالحيض مانع من الصلاة والقتل مانع من الميراث ونصب التقادير الشرعية وهي إعطاء الموجود حكم المعدوم ، أو المعدوم حكم الموجود كما نقدر رفع الإباحة بالرد بالعيب بعد ثبوتها قبل الرد . ونقول : ارتفع العقد من أصله لا من حينه على أحد القولين للعلماء ونقدر النجاسة في حكم العدم في صور الضرورات كدم البراغيث وموضع الحدث في المخرجين ونقدر وجود الملك لمن قال لغيره أعتق عبدك عني لتثبت له الكفارة والولاء مع أنه لا ملك له ونقدر الملك في دية المقتول خطأ قبل موته حتى يصح فيه الإرث فهاتان من باب إعطاء المعدوم حكم الموجود والأوليان من باب إعطاء الموجود حكم المعدوم وهو كثير في الشريعة ولا يكاد باب من أبواب الفقه ينفك عن التقدير وقد بسطت ذلك في كتاب الأمنية في إدراك النية حيث تكلمت فيها على رفض النية ورفعها بعد وقوعها مع أن رفع الواقع محال عقلا والشرع لا يرد بخلاف العقل وحررت التقادير في هذه المباحث هنالك خطاب الوضع
فهذا هو تصوير خطاب التكليف وخطاب الوضع .
واعلم أنه علم المكلف وقدرته على ذلك الفعل وكونه من كسبه بخلاف خطاب الوضع لا يشترط ذلك فيه فلذلك نورث بالإنساب من لا يعلم نسبه ويدخل العبد الموروث في ملكه ويعتق عليه إن كان ممن يعتق عليه مع غفلته عن ذلك وعجزه عن دفعه ويطلق بالإضرار [ ص: 162 ] والإعسار اللذين هما معجوز عنهما ويضمن بالإتلاف المغفول عنه من الصبيان والمجانين فإن يشترط في خطاب التكليف قول صاحب الشرع اعلموا أنه متى وجد كذا فقد وجب كذا أو حرم كذا أو ندب أو غير ذلك هذا في السبب أو يقول عدم كذا في وجود المانع أو عند عدم الشرط . معنى خطاب الوضع
واستثنى صاحب الشرع من عدم اشتراط العلم والقدرة في خطاب الوضع قاعدتين
القاعدة الأولى يشترط فيه القدرة والعلم والقصد فلذلك لا قصاص في قتل الخطأ والزاني أيضا ولذلك لا يجب الحد على المكره ولا على من لا يعلم أن الموطوءة أجنبية بل إذا اعتقد أنها امرأته سقط الحد لعدم العلم وكذلك الأسباب التي هي أسباب للعقوبات وهي جنايات كالقتل الموجب للقصاص لا حد عليه لعدم العلم وكذلك جميع الأسباب التي هي جنايات وأسباب للعقوبات يشترط فيها العلم والقصد والقدرة والسر في استثناء هذه القاعدة من خطاب الوضع أن رحمة صاحب الشرع تأبى عقوبة من لم يقصد الفساد ولا يسعى فيه بإرادته وقدرته بل قلبه مشتمل على العفة والطاعة والإنابة فمثل هذا لا يعاقبه صاحب الشرع رحمة ولطفا . من شرب خمرا يعتقدها خلا
القاعدة الثانية التي استثنيت من خطاب الوضع فاشترط فيها العلم والقدرة قاعدة كالبيع والهبة والوصية والصدقة والوقف والإجارة والقراض والمساقاة والمغارسة والجعالة وغير ذلك مما هو سبب انتقال الأملاك أسباب انتقال الأملاك لا يلزمه بيع وكذلك جميع ما ذكر معه وكذلك فمن باع وهو لا يعلم أن هذا اللفظ أو هذا [ ص: 163 ] التصرف يوجب انتقال الملك لكونه عجميا أو طارئا على بلاد الإسلام لا يلزمه البيع وكذلك جميع ما ذكر معه وسر استثناء هذه القاعدة من قاعدة خطاب الوضع قوله عليه السلام { من أكره على البيع فباع بغير اختياره وقدرته الناشئة عن داعيته الطبيعية } ولا يحصل الرضا إلا مع الشعور والإرادة والمكنة من التصرف فلذلك اشترط في هذه القاعدة العلم والإرادة والقدرة . إذا تقرر هذا تقرر شرط خطاب التكليف دون خطاب الوضع وظهر الفرق فأزيده بيانا بذكر ثلاث مسائل ( المسألة الأولى ) لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفسه
اعلم أن وقد ينفرد كل واحد منهما بنفسه أما اجتماعهما فكالزنى فإنه حرام ومن هذا الوجه هو خطاب تكليف وسبب للحد ومن هذا الوجه هو خطاب وضع والسرقة من جهة أنها محرمة خطاب تكليف ومن جهة أنها سبب القطع خطاب وضع وكذلك بقية الجنايات محرمة وهي أسباب العقوبات والبيع مباح أو مندوب أو واجب أو حرام على قدر ما يعرض له في صوره على ما هو مبسوط في كتب الفقه فمن هذا الوجه هو خطاب تكليف ومن جهة أنه سبب انتقال الملك في البيع الجائز أو التقدير في الممنوع هو خطاب وضع وبقية العقود تتخرج على هذا المنوال وأما انفراد خطاب الوضع فكالزوال ورؤية الهلال ودوران الحول ونحوها فإنها من خطاب الوضع وليس فيها أمر ولا نهي ولا إذن من حيث هي كذلك بل إنما وجد الأمر في أثنائها وترتبها فقط وأما خطاب الوضع قد يجتمع مع خطاب التكليف فكأداء الواجبات واجتناب المحرمات كإيقاع الصلوات وترك المنكرات فهذه من [ ص: 164 ] خطاب التكليف ولم يجعلها صاحب الشرع سببا لفعل آخر نؤمر به أو ننهى عنه بل وقف الحال عند أدائها وترتبها على أسبابها وإن كان صاحب الشرع قد جعلها سببا لبراءة الذمة وترتيب الثواب ودرء العقاب غير أن هذه ليست أفعالا للمكلف ونحن لا نعني بكون الشيء سببا إلا كونه وضع سببا لفعل من قبل المكلف فهذا وجه اجتماعهما وافتراقهما . ( المسألة الثانية ) خطاب التكليف بدون خطاب الوضع وجب على وليه إخراج الجابر من مال الصبي فالإتلاف سبب للضمان وهو من خطاب الوضع فإذا بلغ الصبي ولم تكن القيمة أخذت من ماله وجب عليه إخراجها من ماله بعد بلوغه فقد تقدم السبب في زمن الصغر وتأخر أثره إلى بعد البلوغ ومقتضى هذا أن ينعقد بيعه ونكاحه وطلاقه فإنها أسباب من باب خطاب الوضع الذي لا يشترط فيه التكليف ولا العلم ولا الإرادة فينعقد من الصبيان العالمين الراضين بانتقال أملاكهم وتتأخر الأحكام إلى بعد البلوغ فيقضى حينئذ بالتحريم في الزوجة في الطلاق كما تأخر الضمان عليه ووجوب دفع القيمة إلى بعد البلوغ وكذلك يتأخر لزوم تسليم المبيع إلى بعد البلوغ وبقية الآثار كذلك قياسا على الضمان ولم أر أحد قال به الصبي إذا أفسد مالا لغيره
( والجواب ) بذكر الفرق بين الضمان وبين هذه الأمور من وجهين
( الوجه الأول ) أن هذه الأمور يشترط فيها الرضا لأنها وإن كانت من باب خطاب الوضع غير أنه قد تقدم استثناء قاعدة انتقال الأملاك من قاعدة خطاب الوضع وأنه يشترط فيها الرضا والطلاق فيه إسقاط عصمة فهو من باب ترك الأملاك وكذلك العتق أيضا هو إسقاط ملك فاشترط فيه الرضا ولما كان الصبي غير عالم بالمصالح لنقصان عقله وعدم معرفته بها جعل الشرع رضاه كعدمه والمعدوم شرعا كالمعدوم حسا فهو غير راض وغير الراضي لا يلزمه طلاق ولا بيع فكذلك الصبي بخلاف قاعدة الإتلافات لا أثر للرضى فيها ألبتة فاعتبرت منه
( الوجه الثاني ) أن أثر الطلاق التحريم وهو ليس أهلا له وأثر البيع إلزام تسليم المبيع والصبي ليس أهلا للتكليف بالتحريم والإلزام فإن قيل فلم لا تتأخر هذه الأحكام إلى بعد البلوغ كما تأخر إلزام دفع القيمة قلت الفرق أن تأخر المسببات عن أسبابها على خلاف الأصل وإنما خالفنا هذا الأصل في الإتلاف لضرورة حق الآدمي في جبر ماله لئلا يذهب مجانا فتضيع الظلامة وهذه ضرورة عظيمة ولا ضرورة تدعونا لتقديم الطلاق وتأخير التحريم بل إذا أسقطنا الطلاق واستصحبنا العصمة لم يلزم فساد ولا تفوت ضرورة وكذلك إذا أبقينا [ ص: 165 ] الملك في المبيع للصبي كنا موافقين للأصل ولا يلزم محذور ألبتة أما لو أسقطنا إتلافه ولم نعتبره لضاع مال المجني عليه وتلف وتعين ضرره وهذا فرق كبير فتأمله . ( المسألة الثالثة ) الكعبة في الصلاة فتاوى علمائنا متظافرة على أنها من الواجبات مع أن الطهارة والستارة واستقبال أجزأته صلاته إجماعا وفعله قبل الوقت لا يوصف بالوجوب فإن الوجوب في هذه الأمور إنما يقع تبعا لطرءان السبب الذي هو الزوال ونحوه من أوقات الصلوات فقبل سبب الوجوب لا وجوب وإذا عدم الواجب في هذه الأفعال اتجه الإشكال من قاعدة أخرى وهي أن غير الواجب لا يجزئ عن الواجب وإن علم الواجب لا يخرج عن عهدته إلا بفعل يفعل لا بغير فعل ألبتة فهذا مخالف لقواعد الشرع [ ص: 166 ] المكلف لو توضأ قبل الوقت واستتر واستقبل القبلة ثم جاء الوقت وهو على تلك الصورة وصلى من غير أن يجدد فعلا ألبتة في هذه الثلاثة
وعند توجه هذه الإشكالات اضطربت أجوبة الفقهاء واختلفت أفكارهم فقال القاضي أبو بكر بن العربي أقول الوضوء واجب وجوبا موسعا قبل الوقت وفي الوقت والواجب الموسع يجوز تقديمه وتأخيره ويقع على التقديرين واجبا فما أجزأ عن الواجب إلا واجب وهذا أحسن الأجوبة التي رأيتها وهو لا يصح بسبب أن الواجب الموسع في الشريعة إنما عهد بعد طرءان سبب الوجوب أما وجوب قبل سببه فلا يعقل في الشريعة لا مضيقا ولا موسعا وأوقات الصلوات نصبها صاحب الشرع أسبابا لوجوبها فلا تجب قبلها ولا تجب شرائطها ووسائلها قبل وجوبها فإن القاعدة الشرعية أن وجوب الوسائل تبع لوجوب المقاصد ولأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بعد وجوب الواجب الأصلي أما قبل وجوبه فهو غير معقول هذا ما على هذا الجواب وقال غيره هذه الأمور تقع غير واجبة وتجزئ عن الواجب بالإجماع فهي مستثناة بالإجماع فاندفع السؤال وهذا ليس بجيد فإن الاستثناء على خلاف الأصل ولا نسلم أن الإجماع [ ص: 167 ] منعقد على أنها مستثناة بل على أنها مجزئة .
أما الاستثناء فلا نسلمه وقال ثالث الموجود من الفعل بعد دخول الوقت في هذه الأمور هو الواجب وهو لا بد أن يستصحب ثوبه واستقباله وطهارته وملازمة الشيء واستصحابه فعل من المكلف فهذا هو الذي أجزأ عن الواجب وهذا أيضا غير جيد بسبب أنا نضيق الفرض في الثوب والقبلة ونفرضه قبل الوقت على تلك الهيئة بحيث لا يجدد شيئا بعد دخول الوقت حتى يحرم ولا نسلم أن دوام الثوب عليه فعل له ولا دوام الطهارة بدليل أنه لو ومع الغفلة يمتنع الفعل لأن من شرط الفعل الشعور ولا شعور فلا فعل وهذا التضييق يحسم مادة هذا الجواب فإن قلت فلم حنثته بدوام لبس الثوب إذا حلف لا يلبس ثوبا وهو لابسه أو لا يدخل دارا وهو فيها على أحد القولين مع أنه ليس معه إلا الاستصحاب فدل ذلك على أنه فعل وإذا كان فعلا هناك كان فعلا هنا غفل عن كونه متطهرا ومستقبلا ولابسا وصلى صحت صلاته قلت الإيمان يكفي فيها شهادة العرف كان فيها فعل أم لا فقد نحنثه بغير فعله بل بفعل غيره كقوله إن قدم زيد أو طار الغراب أو بغير ذلك من الأفعال أو بغير فعل ألبتة كقوله إن كان المستحيل مستحيلا فامرأته طالق طلقت عليه امرأته مع أن المستحيل لا فعل له فيه ألبتة بخلاف ما نحن فيه فإنه باب تكليف وإيجاب والتكليف لا بد فيه [ ص: 168 ] من الفعل فاندفع السؤال والجواب الصحيح عندي أن هذه الأمور الثلاثة الطهارة والستارة والاستقبال شروط فهي من باب خطاب الوضع وخطاب الوضع لا يشترط فيه فعل المكلف ولا علمه ولا إرادته .
فإن دخل الوقت وهو غير متطهر ولا لابس ولا مستقبل توجه التكليف عليه بهذه الأمور وتحصيلها فاجتمع فيها حينئذ خطاب الوضع وخطاب التكليف وإن دخل الوقت وهو متطهر لابس مستقبل اندفع خطاب التكليف وبقي خطاب الوضع خاصة فأجزأته الصلاة لوجود شروطها وليس من شرط خطاب الوضع أن يجتمع معه خطاب التكليف ولا يحتاج إلى شيء من تلك التعسفات بل نخرجه على قاعدة خطاب الوضع ولا يلزم منه مخالفة قاعدة ألبتة [ ص: 169 ] غايته أن يلزم منه أن يجب الوضوء في حالة دون حالة وهذا لا منكر فيه فإن شأن الشريعة تخصيص الوجوب ببعض الحالات وبعض الأزمنة وبعض الأشخاص وهذا هو الأصل لا إنه مخالف للأصل وإنما صعب على طالب العلم هذا من جهة أنه يسمع طول عمره أن الطهارة واجبة في الصلاة مطلقا ولم يسمع في ذلك تفصيلا فصعب عليه التفصيل وكم من تفصيل قد سكت عنه الدهر الطويل وأجراه الله تعالى على قلب من شاء من عباده في جميع العلوم العقليات والنقليات ومن اشتغل بالعلوم وكثر تحصيله لها اطلع على شيء كثير من ذلك فهذا هو تحرير هذا الموضع عندي وهو من المشكلات التي يقبل تحريرها والجواب عنها من الفضلاء .