( المسألة الثانية ) إذا المتبادر إلى الإفهام في بادئ الرأي أنه يلزمه الطلاق بالوضع اللغوي ، وأن صريح الطلاق [ ص: 38 ] يفيد الطلاق بالوضع اللغوي بخلاف الكنايات ، وليس كذلك بل إنما يفيد ذلك بالوضع العرفي ، وهذا اللفظ إنما وضع لغة للخبر عن كونها طالقا وهو لو أخبر عن كونها طالقا لم يلزمه طلاق قصد الكذب أو الصدق ، ألا ترى أنه لو تقدم طلاقها فسأل عنها هل هي مطلقة أو باقية في العصمة فقال هي طالق جوابا لهذا السؤال لم يلزمه بهذا طلقة ثانية وإن كانت رجعية في العدة ، وإنما يلزم الطلاق بقوله أنت طالق بالإنشاء الذي هو وضع عرفي لا لغوي ألا ترى أن لفظ الطلاق الطاء واللام والقاف موضوعة في اللغة لإزالة مطلق القيد ، يقال لفظ مطلق ووجه طلق وحلال طلق وأطلق فلان من الحبس وانطلقت بطنه وإزالة قيد العصمة أحد أنواع القيد ، فكان ينبغي إذا أتى اللفظ الدال على إزالة القيد العام المطلق أن يزول الخاص كما إذا زال الحيوان زال الإنسان ، ومع ذلك فقد فرق الفقهاء بين قوله أنت طالق وبين قوله أنت منطلقة ، وألزموا بالأول الطلاق من غير نية ، ولم يلزموا بالثاني إلا بالنية ولم يكتفوا بالوضع الأول ، وما ذلك إلا أن لفظ طالق نقل للإنشاء ولم ينقل منطلقة له ، فلو اتفق زمان ينعكس الحال فيه ويصير منطلقة موضوعا للإنشاء وطالق مهجورا لا يستعمل إلا على الندرة لم يلزمه الطلاق بطالق إلا بالنية وألزمناه بمنطلقة بغير نية [ ص: 39 ] عكس ما نحن عليه اليوم فعلمنا أن لفظ الطلاق لم يوجب إزالة العصمة بالوضع اللغوي بل بالعرف الإنشائي ( فإن قلت ) ليس الطلاق وإزالة العصمة أمرا اختص به بالشريعة بل العرب كانت تنكح وتطلق ، وقد كانت تطلق بالظهار ولفظ الطلاق معروف عند العرب قبل البعثة فتكون إزالة العصمة بالوضع اللغوي السابق على الشريعة لا بأمر يتجدد بعد الشريعة . قال لامرأته أنت طالق ولا نية له
( قلت ) مسلم أن الطلاق وإزالة العصمة كانا معلومين قبل البعثة النبوية عند العرب ، والإنشاءات عند العرب أيضا تتقدم على الشريعة وتكون عرفية ألا ترى أن الرواية والبحر والغائط والخلا ألفاظ كانت العرب تستعملها قبل البعثة ، ومع ذلك فقد نص أئمة اللغة على أنها مجازات لغوية وحقائق عرفية فإن العوائد قد تحدث مع طول الأيام بعث الله نبينا أم لا فالجاهلية تحدث لها عوائد كما تحدث لنا ومن هذا عقود المعاوضات كانوا يتداولونها إنشاءات وألفاظ عرفية منقولة ومن ذلك القسم إنشاء عرفي وهو متقدم في الجاهلية فلا تنافي بين قولنا الطلاق إنشاء عرفي وبين كونه في الجاهلية قبل الإسلام ، وإنما القصد أن يعلم أن لفظ الطلاق إنما أزال العصمة بغير الوضع اللغوي بل بالوضع العرفي ، وإنما هو مجاز عن اللغة لا حقيقة ، وفائدة الفرق أنه إنما يفيد زوال العصمة بالعرف والعوائد ، وأنها مدرك إفادته كذلك لتنقلنا معها كيف تنقلت ؛ لأنها المدرك ، وإذا كان الموجب هو الوضع اللغوي وجب الثبوت معه وإلزام الطلاق به حتى تطرأ عادة ناسخة لاقتضاء ذلك فيكون اللزوم هو الأصل حتى يطرأ الناسخ المبطل ، وإذا قلنا إنها توجب بالعادة كان الأصل هو عدم اللزوم [ ص: 40 ] من قبل اللغة حتى يثبت اللزوم من جهة العرف كما في منطلقة ليس فيه إلا مجرد اللغة فلا جرم لا يزال ينفى عنه اللزوم حتى يتحقق النقل العرفي ، ويظهر أثر هذا الفرق فيما يتنازع فيه من ألفاظ الطلاق صريحا أو كناية ، فيكون الحق في صورة النزاع هو عدم اللزوم حتى يثبته النقل العرفي فلا يلزمه طلاق بخلاف ما لو قلنا باللغة كان الحق في المتنازع فيه هو اللزوم حتى يثبت الناسخ ، وهذا فرق عظيم وأثر عظيم يحتاج إليه الفقيه فيما يعرض له من الألفاظ .