( الفرق الثالث عشر بين وضابط كل واحد منهما وتحقيقه بحيث لا يلتبس بغيره ) فنقول : الأفعال قسمان : منها ما تتكرر مصلحته بتكرره ومنها ما لا تتكرر مصلحته بتكرره فالقسم الأول شرعه صاحب الشرع على الأعيان تكثيرا للمصلحة بتكرر ذلك الفعل كصلاة الظهر فإن مصلحتها الخضوع لله تعالى وتعظيمه ومناجاته والتذلل له والمثول بين يديه والتفهم لخطابه والتأدب بآدابه وهذه المصالح تتكرر كلما كررت الصلاة والقسم الثاني كإنقاذ الغريق إذا شاله إنسان فالنازل بعد ذلك في البحر لا يحصل شيئا من المصلحة فجعله صاحب الشرع على الكفاية نفيا للعبث في الأفعال وكذلك كسوة العريان وإطعام الجيعان ونحوهما فهذا ضابط القاعدتين وبه تعرفان وأذكر أربع مسائل [ ص: 117 ] لتحقيق القاعدتين . قاعدتي فرض الكفاية وفرض العين
( المسألة الأولى ) أن كالآذان والإقامة والتسليم والتشميت وما يفعل بالأموات من المندوبات فهذه على الكفاية والتي على الأعيان كالوتر والفجر وصيام الأيام الفاضلة وصلاة العيدين والطواف في غير النسك والصدقات . الكفاية والأعيان كما يتصوران في الواجبات يتصوران في المندوبات
( المسألة الثانية ) . يكفي في سقوط المأمور به على الكفاية ظن الفعل لا وقوعه تحقيقا
فإذا غلب على ظن هذه الطائفة أن تلك فعلت سقط عن هذه وإذا غلب على ظن تلك أن هذه فعلت سقط عن تلك وإذا غلب على ظن كل واحدة منهما فعل الأخرى سقط الفعل عنهما سؤال إذا كان الوجوب متقررا على جميع الطوائف فكيف سقط عمن لم يفعل بفعل غيره مع أن فرض الكفاية يقع في الفعل البدني والقاعدة أن الأفعال البدنية لا يجزئ فيها فعل أحد عن أحد وهاهنا أجزأ كصلاة الجنازة والجهاد مثلا وكيف سوى الشرع بين من فعل ومن لم يفعل جوابه أن السقوط هنا ليس بنيابة الغير كما ذكره السائل في القاعدة بل من قاعدة أخرى وهي سقوط الوجوب عن المكلف لعدم حكمة الوجوب لا لأن الغير ناب عن غيره فإذا شال زيد الغريق سقط عن جميع الناس الوجوب لأنه لو بقي لبقي لغير فائدة وحكمة لأن الحكمة حفظ حياة الغريق وقد حصلت فلم تبق بعد ذلك حكمة يثبت الوجوب لأجلها فهذا هو سبب السقوط عن غير الفاعل لا النيابة والتسوية فسبب السقوط عن الفاعل فعله وعن غير الفاعل المعنى المذكور وأما التسوية بين الفاعل وغير الفاعل فما ذلك إلا في معنى السقوط لا في الثواب بل الفاعل يثاب وغير الفاعل لا ثواب له على فعل الغير ألبتة نعم إن كان نوى الفعل فله ثواب نيته .
( المسألة الثالثة ) نقل صاحب الطراز أن يقع فعله فرضا بعدما لم يكن واجبا عليه وطرد غيره هذه القاعدة في جميع فروض الكفاية كمن يلحق بمجهز الأموات من الأحياء وبالساعين في تحصيل العلم من الطلاب فإن ذلك الطالب يقع فعله واجبا وعلل ذلك بأن مصلحة الوجوب لم تحصل بعد وما وقعت إلا بفعل الجميع فوجب أن يكون فعل الجميع واجبا لأن الواجب يتبع المصالح ويختلف ثوابهم بحسب مساعيهم . اللاحق بالمجاهدين وقد كان سقط الفرض عنه
( سؤال ) هذه المسألة نقض كبير على حد الواجب بأي حد حددتموه فإن هذا اللاحق بالمجاهدين أو غيرهم كان له الترك إجماعا من غير ذم ولا لوم ولا استحقاق عقاب ومع ذلك فقد وصفتم فعله بالوجوب فقد اجتمع الوجوب وعدم الذم على تركه وذلك يناقض حدود الواجب كلها وهذا سؤال صعب فيلزم إما بطلان تلك الحدود أو بطلان هذه القاعدة والكل صعب جدا والجواب عن هذا السؤال أن نقول : الوجوب في هذه الصور مشروط بالاتصال والاجتماع مع الفاعلين فلا جرم إن ترك مع الاجتماع أثم والترك مع الاجتماع لا يتصور إلا إذا ترك الجميع والعقاب حينئذ متحقق والقاعدة أن الوجوب المشروط بشرط ينتفي عند انتفاء ذلك الشرط فإذا كان منفردا .
[ ص: 118 ] عنهم يكون شرط الوجوب مفقودا فيذهب الوجوب ولا عجب أن يكون الوجوب مشروطا بشرط الاتصال ومفقودا عند الانفصال كما تقول لزيد : إن اتصلت بعصمة امرأتك أو بقرابة وجبت عليك النفقة .
وإن انفصلت منها لا تجب النفقة فإن عاودتها وجبت وإن فارقتها سقطت كذلك أيضا هاهنا متى اجتمع مع القوم الخارجين للجهاد تقرر الوجوب فإذا أراد أن يفارقهم قلنا لك ذلك فإذا فارقهم بطل الوجوب كذلك أبدا فاندفع السؤال فتأمل ذلك فالسؤال جيد والجواب جيد .
( المسألة الرابعة ) مقتضى ما قررتم من ضابط قاعدة فرض الكفاية وقاعدة فرض الأعيان أن لا تكون صلاة الجنازة فرض كفاية وأن تشرع إعادتها كما قال رضي الله عنه فإن مصلحتها المغفرة للميت ولم تحصل بالقطع والجواب أن مصلحة صلاة الجنازة إما المغفرة ظنا أو قطعا والثاني باطل لتعذره فتعين الأول وقد حصلت المغفرة ظنا بالطائفة الأولى فإن الدعاء مظنة الإجابة فاندرجت صلاة الجنازة في فروض الكفاية وامتنعت الإعادة لحصول المصلحة التي هي معتمد الوجوب كما قاله : الشافعي ولم تبق إلا مصلحة تكثير الدعاء وهي مصلحة ندبية غير أن مالك رحمه الله يساعد على أن الشافعي ولا تقع إلا واجبة ولا تقع مندوبة أصلا فامتنعت الإعادة وكانت هذه القاعدة وهي تعذر الندب فيها حجة عليه . صلاة الجنازة لا يتنفل بها