( الفرق السادس والستون والمائتان بين ) قاعدة التطير وقاعدة الطيرة وما يحرم منهما وما لا يحرم
فالتطير هو الظن السيئ الكائن في القلب ، والطيرة هو الفعل المرتب على هذا الظن من فرار أو غيره وكلاهما حرام لما جاء في الحديث { } ولأنها من باب سوء الظن بالله - تعالى ، ولا يكاد المتطير يسلم مما تطير منه إذا فعله ، وغيره لا يصيبه منه بأس ، وسأل بعض المتطيرين بعض العلماء فقال له : إنني لا أتطير فلا ينخرم على ذلك بل يقع الضرر بي وغيري يقع له مثل ذلك السبب فلا يجد منه ضررا ، وقد أشكل ذلك علي فهل لهذا أصل في الشريعة فقال له نعم قوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله - تعالى - : { أنه عليه السلام كان يحب الفأل الحسن ، ويكره الطيرة } وفي بعض الطرق فليظن بي خيرا وأنت تظن أن الله - تعالى - يؤذيك عند ذلك الشيء الذي تطيرت منه فتسيء الظن بالله - عز وجل - فيقابلك الله على سوء ظنك به بإذايتك بذلك الشيء الذي تطيرت به ، وغيرك لا يسيء ظنه بالله - تعالى ، ولا يعتقد أنه يحصل له ضرر عند ذلك فلا يعاقبه الله - تعالى - فلا يتضرر ثم هذا المقام يحتاج إلى تحقيق ؛ فإن الإنسان لو خاف الهلاك عند ملاقاة السبع لم يحرم إجماعا فتعين أن الأشياء في الغالب قسمان ما جرت العادة بأنه مؤذ كالسموم والسباع والوباء ومعاداة الناس والتخم وأكل الأغذية الثقيلة المنفخة عند ضعفاء المعدة ونحو ذلك فالخوف في هذا القسم ليس حراما ؛ لأنه خوف عن سبب محقق في مجاري العادة ، وقد نقل صاحب القبس عن بعض العلماء أنه قال : معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم { أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء } محمول على بعض الأمراض بدليل تحذيره عليه السلام من الوباء والقدوم على بلد هو فيه . لا عدوى
وهذا حق فإن عوائد الله إذا دلت على شيء وجب اعتقاده كما نعتقد أن الماء مرو والخبز مشبع والنار محرقة وقطع الرأس مميت ومنع النفس مميت ، ومن لم يعتقد ذلك كان خارجا عن نمط العقلاء ، وما سببه إلا جريان العادة الربانية به ، وكذلك ما كان في العادة أكثريا ، وإن لم يكن مطردا نحو كون المحمودة مسهلة والآس قابضا إلى غير ذلك من الأدوية فإن اعتقادها حسن متعين مع عدم اطرادها بل لكونها أكثرية فيتعين حينئذ أن الذي يحرم التطير فيه هو القسم الخارج عن هذا القسم ، وهو ما لم تجر عادة الله - تعالى - به في حصول الضرر [ ص: 239 ] من حيث هو هو فإذا عرض التطير حصل به الضرر عقوبة لمن اعتقد ذلك فيه واعتقد في ملك الله - تعالى - وتصرفه ما ليس فيه مع سوء الظن به وهذا القسم كشق الأغنام والعبور بين الغنم وشراء الصابون يوم السبت ونحو هذا من هذيان العوام المتطيرين فهذا هو القسم الحرام المخوف منه ؛ لأنه سوء ظن بالله - تعالى - من غير سبب ، ومن الأشياء ما هو قريب من أحد القسمين .
ولم يتمحض كالعدوى في بعض الأمراض ونحوه فالورع ترك الخوف منه حذرا من الطيرة ومن ذلك الشؤم الوارد في الأحاديث ففي الصحيح أنه قال عليه السلام { } وفي بعضها { إنما الشؤم في ثلاث الدار والمرأة والفرس } قال صاحب المنتقى : فيحتمل أن يكون معناه - كما قال بعض العلماء - إن كان الناس يعتقدون الشؤم فإنما يعتقدونه في هذه الثلاث أو إن كان الشؤم واقعا في نفس الأمر ففي هذه الثلاث وقيل : أخبر عليه السلام بذلك أولا مجملا ثم أخبر به واقعا في الثلاث ؛ فلذلك أجمل ثم فصل وجزم كما { إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس } عليه السلام أن الدجال إنما يخرج في آخر الزمان فأخبر بالدجال أولا مجملا ثم أخبر به مفصلا على حسب ما ورد الوحي به ، وكذلك { قال عليه السلام في الدجال إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه ، وإن لم أكن فيكم فالمرء حجيج نفسه ، والله - سبحانه - خليفتي عليكم ثم أخبر } أو ما هذا معناه ثم أخبر أن الممسوخ لم يعقب فقد أخبر بالمسخ أولا مجملا ثم أخبر به مفصلا ، وهو كثير في السنة فتنبه لهذه القاعدة فبها يحصل لك الجمع بين كثير من الأحاديث ، ولا مانع أن يجري الله - تعالى - عادته بجعل هذه الثلاثة أحيانا سببا للضرر ففي الصحيح أنه عليه السلام { سئل عليه السلام عن أكل الضب فقال : إنه قد مسخت أمة من الأمم وأخشى أن يكون منهم } وعن قيل له : يا رسول الله دار سكناها ، والعدد كثير ، والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال صلى الله عليه وسلم دعوها ذميمة عائشة أنها قالت : إنما تحدث رسول الله عن أقوال الجاهلية في الثلاث قال الباجي : ولا يبعد أن يكون ذلك عادة ، وفي الموطإ قال عليه السلام { } ، ولا يحل الممرض على المصح وليحل المصح حيث شاء قال لا عدوى ، ولا هام ، ولا صفر الباجي قال ابن دينار : لا يعدي مريض مريضا خلافا لما كانت العرب تعتقده فبين عليه السلام أن ذلك من عند الله - تعالى - ، ولا هامة قال : معناه لا تطير بالهامة كانت العرب تقول : إذا [ ص: 240 ] وقعت هامة على بيت خرج منه ميت . مالك
وقيل : معناه أن العرب كانت تقول إذا قتل أحد خرج من رأسه طائر لا يزال يقول اسقوني حتى يقتل قاتله فعلى الأول يكون الخبر نهيا وعلى الثاني يكون تكذيبا ، ولا صفر هو النسيء التي كانت الجاهلية تحرم فيه صفر لتبيح به المحرم وقيل : كانت الجاهلية تقول : هو داء في الجوف يقتل قال عليه السلام لا يموت إلا بأجله والممرض صاحب الماشية المريضة والمصح صاحب الماشية الصحيحة قال ابن دينار ومعنى الممرض المصح بإيراد ماشية على ماشية فيؤذيه بذلك فنسخ بقوله { } وقيل : معناه لا يحل المجذوم محل الصحيح معه يؤذيه ، وإن كان لا يعدي فالنفس تكرهه فهو من باب إزالة الضرر لا من العدوى وقيل : هو ناسخ لقوله عليه الصلاة والسلام { لا عدوى } لا عدوى
[ ص: 239 - 240 ]