( المسألة الخامسة ) نص وغيره من العلماء على أن القاضي عبد الوهاب فيلزم على هذا إذا حيث وأين من صيغ العموم طلقت ثم وجدها في عدتها مرارا أن تطلق عليه ثلاثا لأجل العموم وكذلك القول في متى ولا يلزم بها إلا طلقة واحدة وهو مشكل لأن مقتضى نصهم على العموم التكرير تحقيقا للعموم والفرق بين المطلق والعام فإن المطلق هو الذي يقتصر منه على فرد ألا ترى أن كلما لما كانت للعموم تكرر الطلاق بتكرر المعلق عليه في قال لها : حيث وجدتك أو أين وجدتك فأنت طالق فوجدها طلقت ثلاثا فكيف الجمع بين العموم وأنه لا يلزم إلا طلقة واحدة وما الفرق بين متى ما وكلما وما معنى ما فيهما ؟ . قوله كلما دخلت الدار فأنت طالق فتكرر دخولها في عدتها
والجواب مبني على قاعدة وهي أن التعليق ينقسم إلى أربعة أقسام : عام على عام ومطلق على مطلق ومطلق على عام وعام على مطلق القسم الأول وهو تعليق عام على عام فهو نحو علق جميع الطلقات على جميع الدخلات على وجه التفريق لإفراد الطلاق على إفراد الدخول لا على وجه اجتماع أفراد الطلاق لكل فرد من إفراد الدخول فلا جرم لزم بكل دخلة طلقة . كلما دخلت [ ص: 96 ] الدار فأنت طالق
والقسم الثاني تعليق مطلق على مطلق نحو علق مطلق الطلاق على مطلق الدخول فإذا وجد مطلق الدخول لزم مطلق الطلاق وانحلت يمينه وإن وإذا في ذلك سواء غير أن الفرق بينهما من وجوه أخر وهو أن إذا تدل على الزمان مطابقة والشرط يعرض لها فيلزم في بعض الصور وقد تعرى عن الشرط وتستعمل ظرفا مجردا كقوله تعالى { إن دخلت الدار فأنت طالق وإذا دخلت الدار فأنت طالق والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى } فهي في موضع نصب على الحال ومعناه أقسم بالليل حالة غشيانه وبالنهار حالة تجليه لأنها أكمل الحالات والقسم تعظيم للمقسم به وتعظيم الشيء في أعظم حالاته مناسب وأما إن فتدل على الشرط مطابقة وعلى الزمان التزاما عكس إذا فإن الدخول لا بد له من زمان بطريق اللزوم فهما متعاكسان من هذا الوجه وإن استويا في الإطلاق وبقيت أمور أخر تختص بها إذا نحو الأسمية وغيرها لا يناسب ذكرها هنا .
( القسم الثالث ) تعليق مطلق على عام نحو نحو متى وأين وحيث فهذه من صيغ العموم في الزمان والمكان فإنه يلزم طلقة واحدة فكأنه قال : أنت طالق أبدا كما لو صرح بقوله أنت طالق في جميع الأزمنة أو في جميع البقاع طلقة واحدة وهذه الصيغ هي أبلغ صيغ العموم ومع ذلك لو صرح بها لم تلزمه إلا طلقة واحدة [ ص: 97 ] وكما تقول : الحج واجب في كل العمر مرة واحدة فتصرح بالعموم في العمر وتريده ومع ذلك فمظروفه حجة واحدة . أنت طالق في جميع الأيام أو في كل الأيام طلقة واحدة
وهو مطلق الحج فكما أنه إذا حج حجة واحدة في عمره يبقى بقية عمره لا يلزمه فيها حج كذلك إذا لزمه بزمان واحد في متى وأين أو في بقعة واحدة في حيث طلقة واحدة فتبقى بقية الأزمنة والبقاع لا يلزمه فيها طلاق فتأمل ذلك فأمكن الجمع بين قول العلماء أن هذه الصيغ للعموم وأنه لا يلزم فيها إلا طلقة واحدة فإن قلت : فإذا لم يلزمه بإذا إلا طلقة واحدة ولا في متى إلا طلقة واحدة فكيف يظهر أثر العموم وإذا لم يظهر أثر العموم كيف يقضى به ونحن إنما قضينا بالعموم في قول القائل مثلا من دخل داري فله درهم إلا بظهور أثر ذلك فإن كل من دخل يستحق ومن أحرم استحق مانعه الذم فإذا ذهبت هذه الآثار واتحدت الأحكام بين المطلقات والعمومات وكان الطلاق في زمن غير معين على سبيل البدل في القسمين وأن ذلك الزمان غير معين فيهما كان القول بالعموم في أحدهما والإطلاق في الآخر تحكما محضا والتحكم المحض لا عبرة به والعلماء برآء من ذلك ومن أين فهم العلماء العموم على هذا التقدير فعاد الإشكال ؟ قلت سؤال حسن قوي والجواب عنه من وجهين :
( أحدهما ) ظواهر النصوص الدالة على ذلك منها قوله تعالى { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } لا يفهم منه إلا الأمر بقتلهم في جميع البقاع وثانيها قوله تعالى في الآية الأخرى { حيث ثقفتموهم } لا يفهم منه إلا ذلك وثالثها قوله تعالى { أينما تكونوا يدركم الموت } معناه في أي بقعة كنتم ورابعها قوله تعالى { وهو معكم أينما كنتم } معناه علمه سبحانه وتعالى محيط بالخلائق [ ص: 98 ] في أي بقعة كانوا ونظائره كثيرة في الكتاب العزيز والسنة وكلام العرب وإذا كان لا يفهم من هذه الصيغ إلا العموم دل ذلك على وضعها له .
( الوجه الثاني ) الدال على كونها للعموم أن القاعدة في جميع صيغ العموم أن اسم الجنس إذا أضيف عم نحو قوله عليه السلام { } لا يفهم منه إلا الحكم بالطهورية على جميع أفراد الماء وجميع أفراد الميتة وأين وحيث كل واحد منهما اسم جنس المكان وهما مضافان لما بعدهما بل الإضافة لازمة لهما فيكونان للعموم فإن قلت : ذلك يبطل بإذا وإذ وعند ووراء وقدام وبقية الجهات الست وغير وسوى وشبه ومثل ونحوها مما لا يكاد يستعمل إلا مضافا فإنها ليست للعموم مع وجود الإضافة التي هي في حيث وأين قلت : التزم أن الجميع للعموم . هو الطهور ماؤه الحل ميتته
وتقريره أن كل الذي هو أقوى صيغ العموم إنما يعم فيما أضيف إليه خاصة فإذا قلت : كل رجل له درهم إنما يعم الرجال ولو قلت : كل حيوان إنما عم الحيوانات كلها ولو قلنا : كل نبي اختص بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا يتعدى العموم ما أضيف إليه إذا تقرر هذا فنقول : إذا يقتضي العموم في زمن الزوال خاصة ولا مانع من القول بأنه للعموم وكذلك إذا قلت : قال القائل : إذا زالت الشمس فأنت حر عام في جميع زمان مجيء زيد وكذلك عندك مال يتناول جميع حوزتك وكذلك قوله تعالى { آتيك إذا جاء زيد ما عندكم ينفد وما عند الله باق } عام في جميع بقاعنا المشتملة على أموالنا ومملوكاتنا وكذلك وراءك وأمامك يتناول جميع البقاع التي هي وراءك وأمامك من غير حد ولا نهاية وكذلك كل حد أشير إليه من ذلك كان اللفظ فيه حقيقة وكان اللفظ متناولا له وكذلك بقية الجهات الست عامة في مسمياتها [ ص: 99 ] وأما على ما نص عليه النحاة وما لا يتعرف بالإضافة كان وجود الإضافة فيه كعدمها فلذلك لم يعم بخلاف أين وحيث فإن قلت : لم نجد أحدا عد هذه الصيغ كلها من صيغ العموم في كتب الأصول وكتب النحو . غير وشبه وسوى ومثل فإنها لا تتعرف بالإضافة
( قلت ) : كفاهم في التنبيه عليها قولهم اسم الجنس إذا أضيف عم إذا تقرر أن حيث وأين من صيغ العموم فيصيرمثل قوله معنى أنت طالق حيث جلست ومعلوم أنه لو صرح بذلك للزمه طلقة واحدة ويكون العموم ثابتا للظرف وكذلك ها هنا فصح قول العلماء أن حيث وأين للعموم وأن اللازم طلقة واحدة ولا يتنافى ذلك ولا يتناقض [ ص: 100 ] أنت طالق في جميع البقاع أو في كل البقاع
( القسم الرابع ) الذي بقي من التقسيم في القاعدة وهو تعليق عام على مطلق فيكون معناه التزام جميع الطلاق في زمن فرد فهذا القسم الحكم فيه أن يلزم من ذلك العموم ثلاث ويسقط ما عداها كما لو فقد صرح بالعموم مع الإطلاق في الزمان فيلزمه ثلاث تطليقات ويسقط الباقي فهذا القسم موجود في اللغة بهذا اللفظ ونحوه من الألفاظ المركبة ولم أجده بلفظ مفرد كما هو في كلما وأما قال : لها أنت طالق طلقات لا نهاية لها في العدد إن دخلت الدار أن ما في الجميع زمانية فمعنى قوله الفرق بين كلما ومتى وأينما وحيثما فجعل جميع الأزمنة كل فرد منها ظرفا لحصول طلقة فيتكرر الطلاق في تلك الظروف توفية باللفظ . كلما دخلت الدار فأنت طالق كل زمان تدخلين الدار فأنت طالق في ذلك الزمان
ومقتضاه حتى يحصل في كل زمان طلقة أما متى ما فمتى للزمان المبهم لا للمعين حتى نص النحاة على منع قولنا متى تطلع الشمس فإن زمن طلوع الشمس متعين فيمتنع السؤال عنه بمتى بخلاف قولك متى يقدم زيد فإن زمن قدوم زيد مبهم وإذا كان معناها الزمان المبهم وما أيضا معناها الزمان فيصير معنى الكلام زمان زمان تدخلين الدار فأنت طالق ومعلوم أنه لو صرح بهذا لكان في معنى إعادة اللفظ وأن لا فرق بينه وبين قوله زمان تدخلين الدار أنت فيه طالق بخلاف قولك كلما فإنها تقتضي الإحاطة والشمول لجميع أفراد ما دخلت عليه والتكرار فيه كقولك كلما أكرمت زيدا أكرمني أي إكرامه يتكرر بتكرر إكرامي وأما حيثما وأينما فهو مكان أضيف إلى زمان وتقديره مكان زمان دخولك الدار أنت طالق فيه ومعلوم أنه لو [ ص: 101 ] صرح بهذا لم يفهم منه التكرار بل تطلق في جميع ذلك المكان طلقة واحدة فهذا هو البحث الكاشف عن هذه الحقائق والفروق بينها وبذلك يتضح الفقه فيها .