[ ص: 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وسلم . الحمد لله فالق الإصباح وفارق أهل الغي من أهل الصلاح وسائق السحاب الثقال بهبوب الرياح ومنزل الفرقان على عبده يوم الكفاح ببيض الصفاح محذرا من دار البوار وحاثا على دار الفلاح المنزه في عظيم علائه عن مشابهة الأرواح ومشاكلة الأشباح ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة زاكية الأرباح يوم القداح .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله والحرمات تستباح وحزب الكفر قد عم الفجاج والبطاح فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرشد إلى الحق بالحجاج الوضاح وسمهرية الرماح حتى أعلن مناديه في ناديه وباح ، وظهر دين الله على جميع الأديان فطار في الآفاق بقادمة كقادمة الجناح صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومحبيه ما أزال الظلم الحنادس ضوء الصباح صلاة نحوز بها أعلى رتب النجاح ونخلص بها من دركات الإثم والجناح .
( أما بعد ) فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله تعالى منارها شرفا وعلوا اشتملت على أصول وفروع ، وأصولها قسمان أحدهما المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعرض لتلك الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصيغة الخاصة للعموم ونحو ذلك وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر الواحد وصفات المجتهدين ، والقسم الثاني قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة على أسرار الشرع وحكمه ، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة [ ص: 3 ] ما لا يحصى ولم يذكر منها شيء في أصول الفقه .
وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل ، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع وبقدر الإحاطة بها يعظم قدر الفقيه ، ويشرف ويظهر رونق الفقه ويعرف وتتضح مناهج الفتاوى وتكشف ، فيها تنافس العلماء وتفاضل الفضلاء ، وبرز القارح على الجذع وحاز قصب السبق من فيها برع ، ومن جعل يخرج الفروع بالمناسبات الجزئية دون القواعد الكلية تناقضت عليه الفروع واختلفت وتزلزلت خواطره فيها واضطربت ، وضاقت نفسه لذلك وقنطت ، واحتاج إلى حفظ الجزئيات التي لا تتناهى وانتهى العمر ولم تقض نفسه من طلب مناها ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات ، واتحد عنده ما تناقض عند غيره وتناسب .
وأجاب الشاسع البعيد وتقارب وحصل طلبته في أقرب الأزمان وانشرح صدره لما أشرق فيه من البيان فبين المقامين شأو بعيد وبين المنزلتين تفاوت شديد ، وقد ألهمني الله تعالى بفضله أن وضعت في أثناء كتاب الذخيرة من هذه القواعد شيئا كثيرا مفرقا في أبواب الفقه كل قاعدة في بابها وحيث تبنى عليها فروعها .
ثم أوجد الله تعالى في نفسي أن تلك القواعد لو اجتمعت في كتاب وزيد في تلخيصها وبيانها والكشف عن أسرارها وحكمها لكان ذلك أظهر لبهجتها ورونقها ، وتكيفت نفس الواقف عليها بها مجتمعة أكثر مما إذا رآها مفرقة ، وربما لم يقف إلا على اليسير منها هنالك لعدم استيعابه لجميع أبواب الفقه ، وأينما يقف على قاعدة ذهب عن خاطره ما قبلها بخلاف اجتماعها وتظافرها ، فوضعت هذا الكتاب للقواعد خاصة وزدت قواعد كثيرة ليست في الذخيرة وزدت ما وقع منها في الذخيرة بسطا وإيضاحا فإني في الذخيرة رغبت في كثرة النقل للفروع ؛ لأنه أخص بكتب الفروع ، وكرهت أن أجمع بين ذلك وكثرة البسط في المباحث والقواعد فيخرج الكتاب إلى حد يعسر على الطلبة تحصيله أما هنا فالعذر زائل والمانع ذاهب فأستوعب ما يفتح الله به إن شاء الله تعالى وجعلت مبادئ المباحث في القواعد بذكر الفروق والسؤال عنها بين فرعين أو قاعدتين فإن وقع السؤال عن الفرق بين الفرعين فبيانه بذكر قاعدة أو قاعدتين يحصل بهما الفرق .
وهما المقصودتان ، وذكر الفرق وسيلة لتحصيلهما وإن وقع السؤال عن الفرق بين القاعدتين فالمقصود تحقيقهما ، ويكون تحقيقهما بالسؤال عن الفرق بينهما أولى من تحقيقهما بغير ذلك فإن ضم القاعدة إلى ما يشاكلها في الظاهر ويضادها في الباطن أولى ؛ لأن الضد يظهر حسنة الضد وبضدها تتميز الأشياء وتقدم قبل هذا كتاب لي سميته كتاب الأحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام وتصرف القاضي والإمام ذكرت في هذا الفرق أربعين مسألة جامعة [ ص: 4 ] لأسرار هذه الفروق وهو كتاب مستقل يستغنى به عن الإعادة هنا فمن شاء طالع ذلك الكتاب فهو حسن في بابه وعوائد الفضلاء وضع كتب الفروق بين الفروع ، وهذا في الفروق بين القواعد وتلخيصها فله من الشرف على تلك الكتب شرف الأصول على الفروع وسميته لذلك أنوار البروق في أنواء الفروق ولك أن تسميه كتاب الأنوار والأنواء أو كتاب الأنوار والقواعد السنية في الأسرار الفقهية كل ذلك لك وجمعت فيه من القواعد خمسمائة وثمانية وأربعين قاعدة أوضحت كل قاعدة بما يناسبها من الفروع حتى يزداد انشراح القلب لغيرها .
( فائدة ) سمعت بعض مشايخي الفضلاء يقول فرقت العرب بين فرق بالتخفيف وفرق بالتشديد الأول في المعاني والثاني في الأجسام ، ووجه المناسبة فيه أن كثرة الحروف عند العرب تقتضي كثرة المعنى أو زيادته أو قوته ، والمعاني لطيفة والأجسام كثيفة فناسبها التشديد وناسب المعاني التخفيف مع أنه قد وقع في كتاب الله تعالى خلاف ذلك قال الله تعالى { وإذ فرقنا بكم البحر } فخفف في البحر وهو جسم .
وقال تعالى { فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين } وجاء على القاعدة قوله تعالى { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته } وقوله تعالى { فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه } و { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } ولا نكاد نسمع من الفقهاء إلا قولهم ما الفارق بين المسألتين ، ولا يقولون ما الفرق بينهما بالتشديد ، ومقتضي هذه القاعدة أن يقول السائل افرق لي بين المسألتين ولا يقول فرق لي ولا بأي شيء تفرق مع أن كثيرا يقولونه في الأفعال دون اسم الفاعل ، وقد آن الشروع في الكتاب مستعينا بالله تعالى على خلوص النية وحصول البغية وأسأله بعظيم جلاله وكمال علائه أن يجعله نافعا لي ولعباده ، وأن ييسر ذلك علي وعليهم بمنه وكرمه إنه على كل شيء قدير .