قوله تعالى : ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون إلى قوله تعالى : وأولئك هم المهتدون روي عن عطاء والربيع أن المراد بهذه المخاطبة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة قال وأنس بن مالك جائز والله أعلم أن يكون قدم إليهم ذكر ما علم أنه يصيبهم في الله من هذه البلايا والشدائد لمعنيين : أبو بكر
أحدهما : ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت فيكون ذلك أبعد من الجزع وأسهل عليهم بعد الورود .
والثاني : ما يتعجلون به من ثواب توطين النفس .
قوله تعالى : وبشر الصابرين يعني والله أعلم على ما قدم ذكره من الشدائد ، وقوله تعالى : الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون يعني إقرارهم في تلك الحال بالعبودية والملك له وأن له أن يبتليهم بما يشاء تعريضا منه لثواب الصبر واستصلاحا لهم لما هو أعلم به ، إذ هو تعالى غير متهم في فعل الخير والصلاح ؛ إذ كانت أفعاله كلها حكمة .
ففي إقرارهم بالعبودية تفويض الأمر إليه ورضى بقضائه فيما يبتليهم به ؛ إذ لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى : والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء
وقال : " لأن أخر من السماء أحب إلي من أن أقول لشيء قضاه الله تعالى ليته لم يكن " وقوله تعالى : عبد الله بن مسعود إنا لله وإنا إليه راجعون إقرار بالبعث والنشور واعتراف بأن الله تعالى سيجازي الصابرين على قدر استحقاقهم فلا يضيع عنده أجر المحسنين ثم أخبر بما لهم عند الله تعالى عند الصبر على هذه الشدائد في طاعة الله تعالى فقال : أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة يعني الثناء الجميل والبركات والرحمة وهي النعمة التي لا يعلم مقاديرها إلا الله تعالى ، كقوله في آية أخرى : إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ومن المصائب والشدائد المذكورة في الآية ما هو من فعل المشركين بهم ، ومنها ما هو من فعل الله تعالى .
فأما ما كان من فعل المشركين فهو أن العرب كلها كانت قد اجتمعت على عداوة النبي صلى الله عليه وسلم غير ما كان بالمدينة من المهاجرين والأنصار وكان خوفهم من قبل هؤلاء لقلة المسلمين وكثرتهم . وأما الجوع فلقلة ذات اليد والفقر الذي نالهم .
وجائز أن يكون الفقر تارة من الله تعالى [ ص: 117 ] بأن يفقرهم بتلف أموالهم ، وجائز أن يكون من قبل العدو بأن يغلبوا عليه فيتلف ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يحتمل الوجهين جميعا ؛ لأن النقص من الأموال جائز أن يكون سببه العدو . وكذلك الثمرات لشغلهم إياهم بقتالهم عن عمارة أراضيهم .
وجائز أن يكون من فعل الله تعالى بالجوائح التي تصيب الأموال والثمار .
ونقص الأنفس جائز أن يكون المراد به من يقتل منهم في الحرب ، وأن يريد به من يميته الله منهم من غير قتل .
فأما ، فهو التسليم والرضا بما فعله والعلم بأنه لا يفعل إلا الصلاح والحسن وما هو خير لهم ، وأنه ما منعهم إلا ليعطيهم ، وأن منعه إياهم إعطاء منه لهم . وأما ما كان من فعل العدو فإن المراد به الصبر على جهادهم وعلى الثبات على دين الله تعالى ولا ينكلون عن الحرب ولا يزولون عن طاعة الله بما يصيبهم من ذلك ، ولا يجوز أن يريد بالابتلاء ما كان منهم من فعل المشركين ؛ لأن الله تعالى لا يبتلي أحدا بالظلم والكفر ولا يريده ولا يوجب الرضا به ، ولو كان الله تعالى يبتلي بالظلم والكفر لوجب الرضا به كما رضيه بزعمهم حين فعله والله يتعالى عن ذلك وقد تضمنت الآية الصبر على ما كان من فعل الله وعلى مصائبها على الوجوه التي ذكر . مدح الصابرين على شدائد الدنيا
والوعد بالثواب والثناء الجميل والنفع العظيم لهم في الدنيا والدين ، فأما في الدنيا فما يحصل له به من الثناء الجميل والمحل الجليل في نفوس المؤمنين لائتماره لأمر الله تعالى ولأن في الفكر في ذلك تسلية عن الهم ونفي الجزع الذي ربما أدى إلى ضرر في النفس وإلى إتلافها في حال ما يعقبه ذلك في الدنيا من محمود العاقبة ، وأما في الآخرة فهو الثواب الجزيل الذي لا يعلم مقداره إلا الله قال : وقد اشتملت هذه الآية على حكمين : فرض ، ونفل . أبو بكر
فأما الفرض فهو لا يثنيه عنها مصائب الدنيا ولا شدائدها . وأما النفل فإظهار القول ب التسليم لأمر الله والرضا بقضاء الله والصبر على أداء فرائضه إنا لله وإنا إليه راجعون فإن في إظهاره فوائد جزيلة ، منها فعل ما ندب الله إليه ووعده الثواب عليه ، ومنها أن غيره يقتدي به إذا سمعه ، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله تعالى والثبات على طاعته ومجاهدة أعدائه ويحكى عن داود الطائي قال : الزاهد في الدنيا لا يحب البقاء فيها ، وأفضل الأعمال الرضا عن الله ، ولا ينبغي للمسلم أن يحزن للمصيبة لأنه يعلم أن لكل مصيبة ثوابا " والله تعالى أعلم بالصواب .
[ ص: 118 ]