فصل
اعلم أن ، إذ بذلك تعرف ربوبيته وقدرته وملكه ، كالليل والنهار ، والحر والبرد ، والعلو والسفل ، والسماء والأرض ، والطيب والخبيث ، والداء والدواء ، والألم واللذة ، والحسن والقبيح ، فمن كمال قدرته وحكمته خلقال من أعظم حكمة الرب وكمال قدرته ومشيئته خلق الضدين جبريل وخلقك ، فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها ، وأجرى على يديه كل خير ، وخلق أنجس الأرواح وأخبثها وأرداها وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق ومعصية ، وجعل الطيب منحازا إلى تلك الروح ، والخبيث منحازا إلى هذه الروح ، فتلك مغناطيس كل طيب وهذه مغناطيس كل خبيث ، وأي حكمة أبلغ من هذا ؟
[ ص: 252 ] يوضحه : أن المادة الأرضية مشتملة على الطيب والخبيث ، وقد اقتضت الحكمة أن خلق منها آدم وذريته ، فلا بد أن يأتي بنو آدم كذلك مشاكلتهم لمادتهم ، والمادة النارية فيها الخير والشر ، فلا بد أن يأتي المخلوق منها كذلك ، والله تعالى يريد تخليص الطيب من المادة الأرضية من الخبيث ليجعل الطيب مجاورا له في دار كرامته مختصا برؤيته والقرب منه ، ويجعل الخبيث في دار الخبث ، حظه البعد منه والهوان والطرد والإبعاد ، إذ لا يليق بحمده وحكمته وكماله أن يكون مجاورا له في داره مع الطيبين ، فأخرج من المادة النارية من جعله محركا للنفوس داعيا لها إلى محل الخبث لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع ، وتميل إليه بالمناسبة ، فتتحيز إلى ما يناسبها وما هو أولى بها حكمة ومصلحة وعدلا ، لا يظلمها في ذلك بارئها وخالقها ، بل أقام داعيا يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان معلوما لبارئها وخالقها من أحوالها ، وكان خفيا على العباد فلما استجابت لأمره ، ولبت دعوته ، وآثرت طاعته على طاعة ربها ووليها الحق الذي تتقلب في نعمه وإحسانه ظهر لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس وطردها عنه وإبعادها عن رحمته ، وأقام للنفوس الطيبة داعيا يدعوها إليه إلى مرضاته وكرامته ، فظهر لهم حمده التام وحكمته البالغة في الأمرين ، وعلموا أن خلق عدو الله إبليس وجنوده وحزبه ، وخلق وليه وعبده جبريل وجنوده وحزبه ، هو عين الحكمة والمصلحة ، وأن تعطيل ذلك مناف لمقتضى حكمته وحمده .
يوضحه : أن من لوازم ربوبيته تعالى وإلهيته إخراج الخبأ في السماوات والأرض من النبات والأقوات والحيوان والمعادن وغيرها ، وخبأ في السماوات ما أودعها من أمره الذي يخرجه كل وقت بفعله وأمره ، وهذا من تدبيره لملائكته وتصرفه في العالم العلوي والسفلي ، فبإخراج هذا الخبأ تظهر قدرته ومشيئته وعلمه وحكمته ، وكذلك النفوس فيها خبأ كامن يعلمه سبحانه منها ، فلا بد أن يقيم أسبابا يظهر بها خبأ النفوس الذي كان كامنا فيها ، فإذا صار ظاهرا عيانا ترتب عليه أثره ، إذ لم يكن يترتب على نفس العلم به دون أن يكون معلوما واقعا في الوجود ، قال تعالى : ( ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ) ، وقال تعالى : ( وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) فأخبر أنه خلق العالم العلوي والسفلي ليبلو عباده ، فيظهر من يطيعه ويحبه ويجله [ ص: 253 ] ويعظمه ممن يعصيه ويخالفه ، وهذا الابتلاء والامتحان يستلزم أسبابا يحصل بها ، فلا بد من خلق أسبابه ، ولهذا لما كان من أسبابه خلق الشهوات وما يدعو إليها وتزيينها فعل ذلك وقال تعالى : ( إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ) .
فهذه ثلاث مواضع في القرآن تبين حكمته في خلق أسباب الابتلاء والاختبار ، فظهر أن من بعض الحكم في خلق عدو الله إخراج خبأ النفوس الخبيثة التي شرها وخبيثها كامن فيها ، فأخرج خبأها بزناد دعوته كما يخرج خبأ النار بقدح الزناد ، وكما يخرج خبأ الأرض بإنزال الماء عليها وكما يخرج خبأ الأنثى بلقاح الذكر لها ، وكما يخرج خبأ القلوب الذاكية بإنزال وحيه وكلامه عليها .
فكم له سبحانه من حكمة بالغة ، وآية ظاهرة في خلق عدوه إبليس ، فإن من كمال الحكمة والقدرة إظهار شرف الأشياء الفاضلة بأضدادها ، فلولا الليل لم يظهر فضل النهار ونوره وقدره ، ولولا الألم لم يعرف فضل اللذة وشرفها وقدرها ، ولولا المرض لم يعرف فضل العافية ، ولولا وجود قبح الصورة لم يظهر فضل الحسن وجمالها ، ولهذا كان خلق النار وعذاب أهلها فيها أعظم لنعيم أهل الجنة وأبلغ في معرفة قدرها وخطرها ، فكان خلق هذا القبيح الشنيع المنظر الذي صورته أشنع من باطنه ، وباطنه أقبح من صورته مكملا لحسن تلك الروح الزكية الفاضلة ، التي كمل الله تعالى بصورتها جمال الظاهر والباطن ، فلو كان الخلق كلهم على حسن يوسف مثلا ، فأي فضيلة وتمييز يكون له ؟ ولو كانت الكواكب كلها شموسا وأقمارا ، فأي مزية كانت تكون للنيرين ؟