السابع والثلاثون : أن ويوردون استشكالاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم فيجيبهم عنها ، وكانوا يسألونه عن الصحابة كانوا يستشكلون بعض النصوص ، ويوردون التي يوهم ظاهرها التعارض ، ولم يكن أحد منهم يورد عليه معقولا يعارض النص البتة ، ولا عرف فيهم أحد ، وهم أكمل الأمة عقولا ، عارض نصا بعقل ، وإنما حكى الله تعالى ذلك عن الكفار ، كما تقدم . الجمع بين النصوص
وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " عائشة : يا رسول الله أليس الله يقول : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) فقال : " بلى ، ولكن ذلك العرض ، ومن نوقش الحساب عذب " فأشكل عليها الجمع بين النصين حتى بين لها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تعارض بينهما ، وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لا بد أن يبين الله فيه لكل عامل عمله ، كما قال تعالى : ( من نوقش الحساب عذب " ، فقالت يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ) حتى إذا ظن أنه لا ينجو نجاه الله بعفوه ومغفرته ورحمته ، فإذا ناقشه الحساب عذبه ولا بد ، ولما قال : " حفصة : أليس الله تعالى يقول ( وإن منكم إلا واردها ) قال : أولم تسمعي قوله : ( ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ) فأشكل عليها الجمع بين النصين وظنت الورود هو دخولها ، كما يقال : ورد المدينة إذا دخلها ، فأجابها النبي صلى الله عليه وسلم بأن ورود المتقين غير ورود الظالمين ، فإن المتقين يردونها ورودا ينجون به من عذابها ; والظالمين يردونها ورودا يصيرون جثيا فيها به . لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة " قالت له
عمر : ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به ؟ قال : " هل قلت : إنك [ ص: 170 ] تدخله العام ؟ " قال : لا ، قال : " فإنك آتيه ومطوف به " ، فأشكل على وقال له عمر رجوعهم عام الحديبية ولم يدخلوا المسجد الحرام ، ولا طافوا بالبيت ، فبين لهم أن اللفظ مطلق لا دليل فيه على ذلك العام بعينه ، فتنزيله على ذلك العام غلط ، فرجع عمر وعلم أنه غلط في فهمه .
ولما نزل قوله تعالى : ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ) أبو بكر : يا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر ، فأينا لم يعمل سوءا ؟ فقال : " يا أبا بكر ، ألست تنصب ؟ ألست يصيبك الأذى ؟ " قال : بلى ، قال : " فذلك مما تجزون به " ، فأشكل على قال أمر النجاة مع هذه الآية وظن أن الجزاء في الآخرة ولا بد ، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن جزاءه وجزاء المؤمنين بما يعملونه من السوء في الدنيا ما يصيبهم من النصب والحزن والمشقة ، فيكون ذلك كفارة لسيئاتهم فلا يعاقبون عليها في الآخرة هذا مثل قوله : ( الصديق وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ) .
الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) قال الصحابة رضي الله عنهم : يا رسول الله ، وأينا لم يلبس إيمانه بظلم ؟ قال : " ذاك الشرك ، ألم تسمعوا قول العبد الصالح : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ؟ " ، فلما أشكل عليهم المراد بالظلم وظنوا أن ظلم النفس داخل فيه ، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان ، لم يكن آمنا ولا مهتديا ، أجابهم صلى الله عليه وسلم : " ولما نزل قوله تعالى : ( إن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك " .
وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل ، فإن التام [ ص: 171 ] هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها ، والأمن والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة ، والهدى إلى الصراط المستقيم . الظلم المطلق
ولما نزل قوله تعالى : ( لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ) أشكل ذلك على بعض الصحابة ، وظنوا أن ذلك من تكليفهم بما لا يطيقونه ، فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يقابلوا النص بالقبول ، فبين الله سبحانه بعد ذلك أنه لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وأنه لا يؤاخذهم بما نسوا أو أخطئوا فيه ، وأنه لا يحمل عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم ; وأنه لا يحملهم ما لا طاقة لهم به ، وأنهم إن قصروا في بعض ما أمروا به أو نهوا عنه ثم استغفروا عفا الله عنهم وغفر لهم ورحمهم ، فانظر ماذا أعطاهم الله تعالى لما قابلوا خبره بالرضى والتسليم والقبول والانقياد دون المعارضة والرد .
ومن ذلك أن عائشة لما سمعت قوله صلى الله عليه وسلم : " " الميت يعذب ببكاء أهله عليه عارضته بقوله تعالى : ( إن ولا تزر وازرة وزر أخرى ) ولم تعارضه بالعقل ; بل غلطت الرواة ، والصواب عدم المعارضة وتصويب الرواة ، فإنهم ممن لا يتهم ، وهم عمر وابنه ، وغيرهم ، والعذاب الحاصل للميت بسبب بكاء أهله تألمه وتأذيه ببكائهم عليه ; والوزر المنفي حمل غير صاحبه له هو عقوبة البريء وأخذه بجريرة غيره ، وهذا لا ينافي تأذي البريء السليم بمصيبة غيره ، فالقوم والمغيرة بن شعبة ، وإن كانوا يطلبون الجمع بين النصين يوهم ظاهرهما التعارض . لم يكونوا يعارضون النصوص بعقولهم وآرائهم