[ ص: 29 ] فصل
في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ
لا ريب أن الله وصف نفسه بصفات وسمى نفسه بأسماء وأخبر عن نفسه بأفعال ، وأخبر أنه يحب ويكره ويمقت ويرضى ويغضب ويسخط ويجيء ويأتي إلى سماء الدنيا وأنه المستوي على عرشه وأن له علما وحياة وقدرة وإرادة وسمعا وبصرا ووجها وأن له يدين وأنه فوق عباده ، وأن الملائكة تعرج إليه وتتنزل بالأمر من عنده وأنه قريب وأنه مع المحسنين ومع الصابرين ومع المتقين وأن السماوات مطويات بيمينه ، ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك وأن قلوب العباد بين أصابعه ، وغير ذلك .
فيقال للمتأول : تتأول هذا كله على خلاف ظاهره ، أم تفسر الجميع على ظاهره وحقيقته ، أم تفرق بين بعض ذلك وبعضه ، فإن تأولت الجميع وحملته على خلاف حقيقته كان ذلك عنادا ظاهرا وكفرا صراحا وجحدا لربوبيته ، وهذا مذهب الدهرية الذين لا يثبتون للعالم صانعا ، فإن قلت : أثبت للعالم صانعا ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه وحيث وصف بما يقع على المخلوق تأولته ، قيل له : فهذه ؟ فإن نفيت دلالتها على معنى ثابت كان ذلك غاية التعطيل ، وإن أثبت دلالتها على معنى هي حق في نفسها ثابت ، قيل لك : فما الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض ؟ وما الفرق بين ما أثبتها ونفيتها من جهة السمع أو العقل ودلالة النصوص أن له سمعا وبصرا وعلما وقدرة وإرادة وحياة وكلاما كدلالتها على أن له محبة ورحمة وغضبا ورضا وفرحا وضحكا ووجها ويدين ، فدلالة النصوص على ذلك سواء ، فلم نفيت حقيقة رحمته ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه ، وأولتها نفس الإرادة ؟ الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه هل تدل على معان ثابتة هي حق في نفسها أو لا تدل
فإن قلت : إن لا يستلزم تشبيها وتجسيما ، وإثبات حقائق هذه الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم فإنها لا تعقل إلا في الأجسام ، فإن الرحمة رقة تعتري طبيعة الحيوان ، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها ، والغضب غل بالقلب لورود ما يرد عليه . إثبات الإرادة والمشيئة
[ ص: 30 ] قيل لك : وكذلك الإرادة هي ميل النفس إلى جلب ما ينفعها ودفع ما يضرها ، وكذلك جميع ما أثبته من الصفات إنما هي أغراض قائمة بالأجسام في الشاهد ، فإن العلم انطباع صورة المعلوم في نفس العالم ، أو صفة عرضية قائمة به ، وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة بالموصوف ، فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه ؟
فإن قلت : أنا أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشبهها .
قيل لك : فهلا أثبت الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين ؟
فإن قلت : هذا لا يعقل ، قيل لك : فكيف عقلت سمعا وبصرا وحياة وإرادة ومشيئة ، ليست من جنس صفات المخلوقين ؟
فإن قلت : أنا أفرق بين بأن ما دل العقل على ثبوته يمتنع تأويله كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر ، وما لا يدل عليه العقل يجب أو يسوغ تأويله كاليد والوجه والضحك والفرح والغضب والرضى ، فإن الفعل المحكم دل على الإرادة فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل . ما يتأول وما لا يتأول
قيل لك : وكذلك الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على الإرادة سواء ، والتخصيص بالكرامة والاصطفاء والاختيار دال على المحبة كدلالة ما ذكرت على الإرادة ، والإهانة والطرد والإبعاد والحرمان دال على المقت والبغض كدلالة ضده على الرضى والحب ، والعقوبة والبطش والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده على الرضى .
ونقول ثانيا : هب أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها فإنه لا ينفيها ، والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى مجرد العقل ، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله ؟
ويقال ثالثا : إن كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيها وتجسيما فهو يقتضيه في الجميع ، فأول الجميع ، وإن كان لا يقتضي ذلك لم يجز تأويل شيء منه ، وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا يقتضيه طولبت بالفرق بين الأمرين .
ولما تفطن بعضهم لتعذر الفراق قال : لا يتأول ، وما لم يدل عليه الإجماع فإنه يتأول ، وهذا كما تراه من أفسد الفروق ، فإن مضمونه أن الإجماع أثبت ما يدل رأي التجسيم والتشبيه ، وهذا قدح في الإجماع ، فإنه لا ينعقد على باطل . ما دل عليه الإجماع كصفات السمع
[ ص: 31 ] ثم يقال : إن كان الإجماع دل على هذه الصفات وظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم بطل نفيكم لذلك ، وإن لم ينعقد عليها بطل التفريق به .
ثم يقال : خصومكم من المعتزلة لم تجمع على ثبوت هذه الصفات .
فإن قلتم : انعقد الإجماع قبلهم ، قيل : صدقتم والله ، والذين أجمعوا قبلهم على إثبات هذه الصفات أجمعوا على إثبات سائر الصفات ولم يخصوها بسبع ، بل تخصيصها بالسبع خلاف قول السلف ، وقول الجهمية والمعتزلة ، فالناس كانوا طائفتين : سلفية وجهمية ، فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولا بين قولين ، فلا للسلف اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا .
وقالت طائفة أخرى : ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاضا ، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام لا يتأول ، وما كان ظاهره جوارح وأبعاضا كالوجه واليدين والقدم فإنه يتعين تأويله لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم .
قال المثبتون : جوابنا لكم هو عين الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات ، فهم قالوا لكم : لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة والحياة لكان محلا للأعراض ولزم التركيب والتجسيم والانقسام ، كما قلتم : لو كان له وجه ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام وحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به ؟
فإن قلتم : نحن نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضا ولا نسميها أعراضا فلا يستلزم تركيبا ولا تجسيما .
قيل لكم : ونحن نثبت ونفيتموها أنتم عنه على وجه لا يستلزم الأبعاض والجوارح ولا يسمى المتصف بها مركبا ولا جسما ولا منقسما . الصفات التي أثبتها الله لنفسه
فإن قلتم : هذا لا يعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض ، قلنا لكم : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض .
فإن قلتم : العرض لا يبقى زمانين ، وصفات الرب تعالى باقية دائما أبدية فليست أعراضا ، قلنا : وكذلك الأبعاض هي ما جاز مفارقتها وانفصالها ، وذلك في حق الرب تعالى محال ، فليست أبعاضا ولا جوارح ، ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أبعاضه وأعراضه . فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقا في نوعين
[ ص: 32 ] فإن قلتم : إن كان الوجه عين اليد وعين الساق والإصبع فهو محال ، وإن كان غيره يلزم التميز ويلزم التركيب ، قلنا لكم : وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهي نفس الحياة والقدرة فهو محال ، وإن تميز لزم التركيب ، فما هو جوابكم ؟ فالجواب مشترك .
فإن قلتم : نحن نعقل صفات ليست أعراضا تقوم بغير جسم وإن لم يكن له في الشاهد نظير ، ونحن لا ننكر الفرق بين النوعين في الجملة ، ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين ، وإن أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه .
ولما أخذ هذا الإلزام بخناق الجهمية قالوا : الباب كله عندنا واحد ونحن ننفي الجميع .
فتبين أنه لا بد لكم من واحد من أمرين : إما هذا النفي والتعطيل ، وإما أن تصفوا الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله وتتبعوا في ذلك سبيل السلف الذين هم أعلم الأمة بهذا الشأن نفيا وإثباتا ، وأشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بجلاله ، فإن فيكون ردها من باب تحريف الكلم عن مواضعه ، ولا يترك تدبرها ومعرفتها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها ، قائمة حقائقها في صدور الذين أوتوا العلم والإيمان ، إثباتا بلا تشبيه ، وتنزيها بلا تعطيل ، كما قالت حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك ، فكان الباب عندهم بابا واحدا ، وعلموا أن الصفات حكمها حكم الذات ، فكما ذاته لا تشبه الذوات فكذا صفاته لا تشبه الصفات . المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات
قال الإمام أحمد : ( التشبيه أن تقول : يد كيد أو وجه كوجه ، فأما إثبات يد ليست كالأيدي ووجه ليس كالوجوه فهو إثبات ذات ليست كالذوات ، وحياة ليست كغيرها من الحياة ، وسمع وبصر ليس كالأسماع والأبصار ، وليس إلا هذا المسلك ، ومسلك التعطيل المحض والتناقض الذي لا يثبت لصاحبه قدم في النفي ولا في الإثبات ، وبالله التوفيق ) وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول كل ما يخالف نحلتها وأصلها ، فالعيار عندهم فيما يتأول وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه ، ما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما خالفها تأولوه .