اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة ، وذلك عامة الأفعال ، نحو : قام زيد وقعد [ ص: 336 ] عمر وانطلق بشر وجاء الصيف وانهزم الشتاء ، ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية ، فقولك : قام زيد ، أي : الجنس من الفعل ، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام ، وكيف يكون ذلك وهو جنس ، والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتي الكائنات من كل من وجد منه القيام ، فمعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم ، هذا محال عند كل ذي لب .
فإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة ، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض للاتباع والمبالغة ، ونسبة القليل بالكثير ، ويدل على انتظام ذلك بجميع جنسه أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل ، فتقول : قومة وقومتين وقياما حسنا وقياما قبيحا ، فإعمالك إياه في جميع أجزائه ; يدل على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها ، وإنما يعمل الفعل من المصادر فيما فيه عليه دليل ، ألا تراك لا تقول قمت جلوسا ولا ذهبت مجيئا ، ولا يجوز ذلك لما لم يكن فيه دليل عليه ، ألا ترى إلى قوله : لعمري لقد أحببتك الحب كله ، فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على اعترافه واستيعابه ، وكذلك قول الآخر :
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
فقوله كل الظن يدل على صحة ما ذهبنا إليه ، قال أبو علي : قولنا زيد بمنزلة قولنا : خرجت فإذا الأسد ، تعريفه هنا تعريف الجنس ، كقولك : الأسد أشد من الذئب ، وأنت لا تريد خرجت وجميع الأسد التي يتناولها الوهم على الباب ، هذا محال واعتقاده اختلال ، وإنما أردت خرجت فإذا واحد من الجنس بالباب ، فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازا لما فيه من الاتساع والتوكيد .
أما الاتساع فبأن وضعت اللفظ المعتاد للجماعة على الواحد ، وأما التوكيد فلأنك عظمت قدر ذلك الواحد بالجماعة ، لأن كل واحد منها مثله في كونه أسدا ، وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر وانطلق محمد وجاء الليل وانصرم النهار .
وكذلك أفعال القديم سبحانه نحو : خلق السماوات والأرض ، وما كان مثله ، ألا ترى أنه عز اسمه لم يكن بذلك خلق أفعالنا ، ولو كان خالقا حقيقية لا محالة لكان خالق الكفر والعدوان وغيرهما من أفعالنا ، وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضا لأنه ليست الحال التي علم الله عليها قيام زيد هي التي علم الله عليها قيام عمر ، ولسنا [ ص: 337 ] نثبت له سبحانه علما لأنه عالم لنفسه إلا أنا مع ذلك نعلم أنه ليس حال علمه بقعود زيد هي حال علمه بجلوس عمرو ، ونحو ذلك .
وكذلك قولك ضربت عمرا مجاز أيضا من غير جهة التجوز في الفعل وأنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ، ولكن من جهة أخرى وهي أنك إنما فعلت بعضه لا جميعه .
ألا تراك تقول ضربت زيدا ، ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحي جسده ، ولهذا إذا احتاط الإنسان أو استظهر جاء ببدل البعض فقال ضربت زيدا رأسه أو وجهه ، نعم ، ثم إنه مع ذلك متجوز ألا تراه يقول ضربت زيدا رأسه فيبدل للاحتياط ، وهو إنما ضرب ناحية من نواحي رأسه لا رأسه كله ، ولهذا يحتاط بعضهم في نحو هذا فيقول ضربت زيدا جانب وجهه الأيمن ، أو ضربه على رأسه .
وإذا عرفت التوكيد ولم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكلهم وكليهما وما أشبه ذلك ، عرفت منه حال سعة المجاز في هذا الكلام ، ألا تراك تقول قطع الأمير اللص ، ويكون القطع بأمره لا بيده ، فإذا قلت قطع الأمير لصا ، رفعت المجاز من جهة الفعل ، وصرت إلى الحقيقة ، لكن بقي عليك التجويز في مكان آخر وهو قطع اللص ، وإنما فعله قطع يده أو رجله ، فإذا احتطت قلت : قطع الأمير يد اللص أو رجله .
قلت : وبقي عليه أن يقول : وذلك مجاز أيضا من جهة أخرى وهو أن اليد رسم للعضو إلى المناكب ، وهو لم يقطعها كلها إنما قطع بعضها ، فإذا احتاط ينبغي له أن يقول : قطع الأمير نفسه من يد اللص ما بين الكوع والأصابع ، وذلك مجاز أيضا من وجه آخر وهو أنه سماه لصا وذلك يقتضي أنه وجد جميع أفراد اللصوصية كما قرره في أول كلامه ، وذلك محال فقد أوقع البعض موقع الكل وذلك مجاز ، فإذا احتاط قال قطع الأمير نفسه من يد ومن وجد منه بعض اللصوصية ما بين الكوع والأصابع ، ويبقى عليه مجاز آخر عنده من جهة أخرى وهو أن القطع عنده دال على جميع أفراد الجنس ولم يوجد ذلك فأوقع القطع على فرد من أفراد القطع لمن وجد منه بعض أفراد اللصوصية أوقعه في جزء من أجزاء يده .
فيا ضحكة العقلاء ويا شماتة الأعداء بهذه العقول السخيفة التي كادها عدوها ويأبى الله أن يوفق عقل من أنكر علمه وقدرته ويكذب عليه حيث يزعم أن غالب كلامه مجاز لا حقيقة له لشهود هذا الذي هو بأقبح الهذيان أشبه منه بالفصاحة والبيان .
[ ص: 338 ] قال وكذلك قولك جاء الجيش أجمع ، ولولا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضهم إن أطلقت المجيء على جميعهم لما كان لقولك أجمع معنى ، فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على شياع المجاز فيها واشتماله عليها حتى إن أهل العربية أفردوا لذلك بابا لعنايتهم به ، وكونه مما لا يضاع ولا يهمل مثله ، كما أفردوا لكل معنى أهمهم بابا كالصفة والعطف والإضافة والنداء والندبة والقسم وغير ذلك .
قال : وكذلك أيضا حذف المضاف مجاز لا حقيقة وقد كثر حتى إن في القرآن وهو أفصح الكلام منه أكثر من مائة موضع بل ثلاثمائة موضع ، وفي الشعر منه ما لا أحصيه ، قال : وهذا يدفع دفع ابن جني أبي الحسن القياس عن حذف المضاف وإن لم يكن حقيقة ، أو لا يعلم أبو الحسن كثرة المجاز عليه وسعة استعماله وانتشار مواقعه ، كقام أخوك ، وجاء الجيش ، وضربت زيدا ، ونحو ذلك ، كل ذلك مجاز ، وهو على غاية الانقياد والاطراد فكذلك حذف المضاف .
فإن قيل : يجيء من هذا أن تقول ضربت زيدا وإنما ضربت غلامه وولده ، قيل : هذا الذي شنعت به بعينه جائز ، ألا تراك تقول : إنما ضربت زيدا لضربك لغلامه ، وأهنته بإهانتك ولده ، وهذا باب إنما يصلحه ويفسده المعرفة به ، فإن فهم عنك في قولك ضربت زيدا أنك إنما أردت بذلك ضربت غلامه أو أخاه أو نحو ذلك جاز ، وإن لم يفهم عنك لم يجز ، كما أنك إن فهم بقولك أكلت الطعام أكلت بعضه لم يحتج إلى البدل .
وإن لم يفهم عنك وأردت إفهام المخاطب إياه لم تجد بدا من البيان وأن تقول بعضه أو نصفه أو نحو ذلك ، ألا ترى أن الشاعر لما فهم عنه ما أراد بقوله :
صبحن من كاظمة الحصن الخرب يحملن عباس بن عبد المطلب
وإنما أراد ، ولو لم يكن من الثقة يفهم ذلك لم يجد بدا من البيان ، وعلى ذلك قول الآخر : عليم بما أعيا النطاسي حذيما إنما أراد عبد الله بن عباس ابن حذيم .
[ ص: 339 ] قال : ويدل على إلحاق المجاز بالحقيقة عندهم وسلوكه طريقتهم في نفوسهم أن العرب قد وكدته كما وكدت الحقيقة ، وذلك قول : الفرزدق
عشية سال المربدان كلاهما
سحابة موت بالسيوف الصوارم
وقال الآخر :
إذا البيضة الصماء عضت صفيحة بحرباتها صاحت صياحا وصلت
فإن قلت : أرأيت لو أن أحدنا عمل له مصوتة وحركها واجتزأ بأصواتها عن أصوات الحروف المتقطعة المسموعة في كلامنا ، أكنت تسميه متكلما وتسمي تلك الأصوات كلاما ، وذلك المصوت به متكلما ، وذلك أنه ليس في قوة البشر أن يوردوا الكلام بالآلات التي يصنعوها على سمت الحروف المنطوق بها وصورتها لعجزهم عن ذلك ، وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه اليسير من حروفها ، فلا يستحق لذلك أن تكون كلاما ، ولا يكون الناطق بها متكلما ، كما أن الذي يصور الحيوان تجسيما وتزويقا لا يقال خالق للحيوان ، وإنما يقال مصور وحا ومشبه ، وأما القديم سبحانه فإنه قادر على إحداث الكلام على صورته الحقيقية وأصواته الحيوانية في الشجرة والهواء وما شاء ، وهذا فرق .
فإن قلت : فقد أحال قولنا اشرب ماء البحر ، وهذا منه حظر للمجاز الذي أنت مدع شياعه وانتشاره . سيبوبه
قيل : إنما أحال ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة ، وهذا مستقيم ، إذ الإنسان [ ص: 340 ] الواحد لا يشرب ماء البحر كله ، فأما إن أراد بعضه ثم أطلق اللفظ ولا يريد به جمعه فلا محالة في جوازه ، ألا ترى إلى قوله :
نزلوا بالعزة يسيل عليهم ماء الفرات يجيء في أطواد
ومن التوكيد في المجاز قوله تعالى : ( وأوتيت من كل شيء ) ولم تؤت لحية رجل ولا ذكره ، قال : ووجه هذا عندي أن يكون مما حذفت صفته ، حتى كأنه قال : ( وأوتيت من كل شيء ) تؤتاه المرأة الملكة ، ألا ترى أنها لو أوتيت لحية وذكرا لم تكن امرأة أصلا ، ولما قيل فيها ( وأوتيت ) وقيل فيها ( وأوتي ) ومنه قوله تعالى : ( الله خالق كل شيء ) وهو سبحانه شيء ، وهو ما يستثنيه العقل ببديهته ولا يحوج إلى التشاغل باستثنائه ، فإن الشيء كائنا ما كان لا يخلق نفسه .
فأما قوله تعالى : ( وفوق كل ذي علم عليم ) فحقيقة لا مجاز ، وذلك أنه سبحانه ليس عالما بعلم ، فهو إذا العليم الذي فوق ذوي العلوم أجمعين ، ولذلك لم يقل وفوق كل عالم عليم ، لأنه سبحانه عالم ولا عالم فوقه .
فإن قلت : ليس قوله ( وأوتيت من كل شيء ) ، ( وفوق كل ذي علم عليم ) اللفظ المعتاد للتوكيد قيل : هو إن لم يأت نابعا على سمة التوكيد فإنه بمعنى التوكيد ، ألا ترى أنك إذا قلت : عممت بالضرب جميع القوم ، ففائدته فائدة قولك ضربت القوم كلهم ، فإذا كان المعنيان واحدا كان ما وراء ذلك لغوا غير معتد به " هذا آخر كلامه " .