فمن ذلك التشبيه لا أتكتم وإن كان تنزيها جحود استوائه
وأوصافه أو كونه يتكلم فعن ذلك التنزيه نزهت ربنا
بتوفيقه والله أعلى وأعظم ورحمة الله على حيث فتح للناس هذا الباب في قوله : يا راكبا قف الشافعي بالمحصب من منى
واهتف بقاعد خيفها والناهض إن كان رفضا حب آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي وهذا كله كأنه مأخوذ من قول الشاعر الأول :
وعيرني الواشون أني أحبها
وذلك ذنب لست منه أتوب
وإن أردتم بالجسم ما يتميز منه أمر غير أمر ، فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال ، جميعا ، من السمع والبصر والعلم والقدرة والحياة ، وهذه صفات متميزة متغايرة ، ومن قال : إنها صفة واحدة فهو بالمجانين أشبه منه بالعقلاء ، وقد قال أعلم الخلق به : " " والمستعاذ به غير المستعاذ منه ، وأما استعاذته صلى الله عليه وسلم به منه فباعتبارين مختلفين ، فإن الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد ، فالمستعيذ بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذا بالموصوف بهما منه . أعوذ برضاك من سخطك ، وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك
وإن أردتم بالجسم ما يكون فوق غيره ومستويا على غيره ، فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه ، كذلك إن أردتم من التشبيه والتركيب هذه المعاني التي دل عليها الوحي والعقل ، فنفيكم لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى ، وجناية على [ ص: 141 ] ألفاظ الوحي ، أما الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسما مركبا مؤلفا مشبها بغيره ، وتسميتكم هذه الصفات تركيبا وتجسيما وتشبيها ، فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة ، ووضعتم لصفاته ألفاظا منكم بدئت وإليكم تعود ، وأما خطؤكم في المعنى فنفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب ، فنفيتم المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر ، وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن العسل شفاء ولم يره فسأل عنه ، فقيل له : مائع رقيق أصفر يشبه العذرة ، تتقيؤه الزنابير ، ومن لم يعرف العسل ينفر عنه بهذا التعريف ، ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده إلا محبة له ورغبة فيه ، ولله در القائل : تقول هذا جناء النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحا وذما وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير وأشد ما جادل أعداء الرسول في التنفير عنه سوء التعبير عما جاء به ، وضرب الأمثال القبيحة له ، والتعبير عن تلك المعاني التي أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين المخدوعين ، فوصلت إلى قلوبهم فنفرت عنه ، وأكثر العقول كما عهدت يقبل القول بعبارة ويرده بعبارة أخرى .
وكذلك إذا قال الفرعوني : لو كان فوق السماوات رب أو على العرش إله لكان مركبا ، قيل له : لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله ، كقوله تعالى : ( في أي صورة ما شاء ركبك ) وقولهم : ركب الخشبة والباب ، وما يركب من أخلاط وأجزاء بحيث كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وركب حتى صار شيئا واحدا ، كقولهم ركبت الدواء من كذا وكذا .
وإن أردتم بقولكم : لو كان فوق العرش كان مركبا هذا التركيب المعهود ، أو أنه كان متفرقا فاجتمع ، فهو كذب وفرية وبهت على الله وعلى الشرع وعلى العقل .
وإن أردتم أنه لو كان فوق العرش لكان عاليا على خلقه بائنا منهم مستويا على عرشه ليس فوقه شيء ، فهذا المعنى حق ، فكأنك قلت : لو كان فوق العرش لكان فوق العرش ، فنفيت الشيء بتغيير العبارة بقولك وقلبها إلى عبارة أخرى ، وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم .
وإن أردت بقولك : كان مركبا أنه يتميز منه شيء عن شيء فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها من بعض ، فهل كان عندك هذا تركيبا ؟
[ ص: 142 ] فإن قلت : هذا يقال لي ، وإنما يقال لمن أثبت شيئا من الصفات ، فأما أنا فلا أثبت له صفة واحدة فرارا من التركيب ، قيل لك : العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سميته أنت مركبا ، وقد دل الوحي والعقل والفطرة على ثبوته ، أفتنفيه لمجرد تسميتك الباطلة ؟ فإن التركيب يطلق ويراد به خمسة معان : تركيب الذات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها زائدا على ماهيتها ، فإذا نفيت هذا التركيب جعلته وجودا مطلقا ، إنما هو في الأذهان لا وجود له في الأعيان ، الثاني : تركيب الماهية من الذات والصفات ، فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتا مجردة عن كل وصف ، لا يبصر ولا يسمع ولا يعلم ولا يقدر ولا يريد ولا حياة له ولا مشيئة ولا وصفة أصلا ، فكل ذات في المخلوقات خير من هذه الذات ، فاستفدت بهذا التركيب كفرك بالله وجحدك لذاته ولصفاته وأفعاله ، الثالث : تركيب الماهية الجسمية من الهيولى والصورة كما يقوله الفلاسفة ، الرابع : التركيب من الجواهر الفردة كما يقوله كثير من أهل الكلام ، الخامس : تركيب الماهية من أجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت .
فإن أردت بقولك : لو كان فوق العرش لكان مركبا ، كما يدعيه الفلاسفة والمتكلمون ، قيل لك : جمهور العقلاء عندهم أن الأجساد المحدثة المخلوقة ليست مركبة ، لا من هذا ولا من هذا ، فلو كان فوق العرش جسم مخلوق أو حدث لم يلزم أن يكون مركبا بهذا الاعتبار ، فكيف يلزم ذلك في حق خالق الفرد والمركب ، الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ، ويؤلف بين الأشياء فيركبها كما يشاء ; والعقل لما دل على إثبات إله واحد ورب واحد لا شريك له ، ولا شبيه له ، لم يلد ولم يولد ، ولم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له ولا صفة ، ولا وجه ، ولا يدين ، ولا هو فوق خلقه ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل منه شيء ، فدعوى ذلك على العقل كذب صريح على الوحي .