فصل
في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعي على مبطل أبدا وهذا من أعظم آفات التأويل
من المعلوم أن كل مبطل أنكر على خصمه شيئا من الباطل قد شاركه في بعضه أو نظيره ، فإنه لا يتمكن من دحض حجته لأن خصمه تسلط عليه بمثل ما تسلط هو به عليه .
مثاله : أن يحتج من يتأول الصفات الخبرية وآيات الفوقية والعلو على من ينكر ثبوت صفة السمع والبصر والعلم بالآيات والأحاديث الدالة على ثبوتها ، فيقول له خصمه : هذه عندي مؤولة كما أولت نصوص الاستواء والفوقية والوجه واليدين والنزول والضحك والفرح والغضب والرضى ونحوها ، فما الذي جعلك أولى بالصواب في تأويلك مني ؟ فلا يذكر سببا على التأويل إلا أتاه خصمه بسبب من جنسه أو أقوى منه أو دونه ، وإذا استدل المتأول على منكري المعاد وحشر الأجسام بنصوص الوحي أبدوا لها تأويلات تخالف ظاهرها وحقائقها ، وقالوا لمن استدل بها عليهم : تأويلنا لهذه الظواهر كتأويلك لنصوص الصفات ، ولا سيما فإنها أكثر وأصرح ، فإذا تطرق التأويل إليها فهو إلى ما دونها أقرب تطرقا ، وإذا استدل بالنصوص الدالة على [ ص: 81 ] فضل الشيخين وسائر الصحابة تأولوها بما هو من جنس تأويلات الجهمي ، وإذا احتج الجهمي على الخارجي بالنصوص الدالة على إيمان مرتكب الكبائر ، وأنه لا يكفر ولا يخلد في النار ، واحتج بها على الوعيديين القائلين بنفوذ الوعيد والتخليد ، قالوا : هذه متأولة ، وتأويلها أقرب من تأويل نصوص الصفات ، وإذا احتج على المرجئة بالنصوص الدالة على أن الإيمان قول وعمل ونية يزيد وينقص ، قالوا هذه النصوص قابلة للتأويل كما قبلته نصوص الاستواء والفوقية والصفات الخبرية ، فنعمل فيها ما عملتم أنتم في تلك النصوص .
فقد بان لا يمكن أهل التأويل أن يقيموا على مبطل حجة من كتاب ولا سنة ، ولم يبق لهم إلا نتائج الأفكار وتصادم الآراء ، لا سيما وقد أعطى الجهمي من نفسه أن أكثر اللغة مجاز ، وأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ، وأن العقل إذا عارض السمع وجب تقديم العقل ، بل نقول : إنه لا يمكن أرباب التأويل أن يقيموا على مبطل حجة عقلية أبدا .
وهذا أعجب من الأول ، وبيانه : أن الحجج السمعية مطابقة للمعقول ، والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل الصريح ، بل هما أخوان وصل الله تعالى بينهما فقال تعالى : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) فذكر ما يتناول به العلوم وهي السمع والبصر والفؤاد الذي هو محل العقل ، وقال تعالى : ( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير ) فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل ، وقال تعالى : ( إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون ) ( إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون ) وقال تعالى : ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم وتدبره بعقولهم ، ومثله قوله : ( أفلم يدبروا القول ) وقال تعالى : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) فجمع بين السمع والعقل ، وأقام بهما حجته على [ ص: 82 ] عباده ، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلا ، فالكتاب المنزل والعقل المدرك حجة الله خلقه ، وكتابه هو الحجة العظمى ، فهو الذي عرفناه ، لم يكن لعقولنا سبيل إلى استقلالها بإدراكه أبدا ، وليس لأحد عنه مذهب ولا إلى غيره مفزع في مجهول يعلمه ومشكل يستبينه ، فمن ذهب عنه فإليه يرجع ، ومن دفع حكمة فيه يحاج خصمه إذ كان بالحقيقة هو المرشد إلى الطرق العقلية والمعارف اليقينية ، فمن رد من مدعي البحث والنظر حكومته ودفع قضيته ، فقد كابر وعاند ولم يكن لأحد سبيل إلى إفهامه .
وليس لأحد أن يقول : إني غير راض حكمه بل بحكم العقل ، فإنه متى رد حكمه فقد رد حكم العقل الصريح وعاند الكتاب والعقل ، والذين زعموا من قاصري العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه على السمع عند تعارضهما إنما أتوا من جهلهم بحكم العقل ، ومقتضى السمع ، فظنوا ما ليس بمعقول معقولا ، فهو في الحقيقة شبهات توهم أنه عقل صريح وليست كذلك ، أو من جهلهم بالسمع إما بنسبهم إلى الرسول ما لم يقله ، أو نسبتهم إليه ما لم يرده بقوله ، وإما لعدم تفريقهم بين ما لا يدرك بالعقول ، فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظن التعارض بين السمع والعقل ، والله سبحانه حاج عباده على ألسنة رسله فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم إياه بأقرب الطرق إلى العقل وأسهلها تناولا ، وأقلها تكلفا وأعظمها غنى ونفعا .