[ ص: 68 ] فصل منزلة الوجد
ومن منازل " إياك نعبد وإياك نستعين " منزلة الوجد
ثبت في الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال . ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما . وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله . وأن يكره أن يعود في الكفر - بعد إذ أنقذه الله منه - كما يكره أن يلقى في النار
وقد استشهد صاحب المنازل بقوله تعالى في أهل الكهف وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا وهذا من أحسن الاستدلال والاستشهاد . فإن هؤلاء كانوا بين قومهم الكفار في خدمة ملكهم الكافر . فما هو إلا أن وجدوا حقيقة الإيمان والتوفيق . وذاقوا حلاوته . وباشر قلوبهم . فقاموا من بين قومهم ، وقالوا : ربنا رب السماوات والأرض الآية .
والربط على قلوبهم : يتضمن الشد عليها بالصبر والتثبيت ، وتقويتها وتأييدها بنور الإيمان ، حتى صبروا على هجران دار قومهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش . وفروا بدينهم إلى الكهف .
: عكس الخذلان . فالخذلان حله من رباط التوفيق . فيغفل عن ذكر ربه . ويتبع هواه ، ويصير أمره فرطا . والربط على القلب
والربط على القلب : شده برباط التوفيق . فيتصل بذكر ربه . ويتبع مرضاته . ويجتمع عليه شمله . فلهذا استشهد عليه بهذه الآية في مقام الوجد .
والشيخ جعل مقام الوجد غير مقام الوجود كما سيأتي إن شاء الله تعالى ، فإن الوجود عند القوم هو الظفر بحقيقة الشيء . والوجد هو ما يصادف القلب ، ويرد عليه من واردات المحبة والشوق ، والإجلال والتعظيم ، وتوابع ذلك . والمواجيد [ ص: 69 ] عندهم فوق الوجد . فإن الوجد مصادفة . والمواجيد ثمرات الأوراد . وكلما كثرت الأوراد قويت المواجيد .
و " الوجود " عندهم فوق ذلك . وهو الظفر بحقيقة المطلوب ، ولا يكون إلا بعد خمود البشرية . وانسلاخ أحكام النفس انسلاخا كليا .
قال الجنيد : علم التوحيد مباين لوجوده ، ووجوده مباين لعلمه .
ولا يريد بالمباينة : المخالفة والمناقضة . فإنه يطابقه مطابقة العلم للمعلوم .
وإنما يريد بالمباينة : أن حال الموحد وذوقه للتوحيد ، وانصباغ قلبه بحاله : أمر وراء علمه به ، ومعرفته به . والمباينة بينهما كالمباينة بين علم الشوق والتوكل والخوف ونحوها ، وبين حقائقها ومواجيدها .
فالمراتب أربعة . أضعفها التواجد وهو نوع تكلف وتعمل واستدعاء .
واختلفوا فيه : هل يسلم لصاحبه أم لا ؟ على قولين .
فطائفة قالت : لا يسلم لصاحبه . وينكر عليه ، لما فيه من التكلف والتصنع المباين لطريق الصادقين . وبناء هذا الأمر على الصدق المحض .
وطائفة قالت : يسلم لصاحبه إذا كان قصده استدعاء الحقيقة ، لا التشبه بأهلها . واحتجوا عمر - رضي الله عنه - وقد رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر يبكيان في شأن أسارى بدر ، وما قبلوا منهم من الفداء : أخبراني ما يبكيكما ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإلا تباكيت . ورووا أثرا بقول . ابكوا ؛ فإن لم تبكوا فتباكوا
قالوا : والتكلف والتعمل في أوائل السير والسلوك لا بد منه . إذ لا يطالب صاحبه بما يطالب به صاحب الحال . ومن تأمله بنية حصول الحقيقة لمن رصد الوجد لا يذم . والتواجد يكون بما يتكلفه العبد من حركات ظاهرة " والمواجيد " لمن يتأوله من أحكام باطنة .
المرتبة الثانية : المواجيد ، وهي نتائج الأوراد وثمرتها .
[ ص: 70 ] المرتبة الثالثة : الوجد وهو ثمرة أعمال القلوب ، من الحب في الله والبغض فيه ، كما جعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ثمرة كون الله ورسوله أحب إلى العبد مما سواهما . وثمرة الحب فيه ، وكراهة عوده في الكفر كما يكره أن يقذف في النار . فهذا الوجد ثمرة هذه الأعمال القلبية ، التي هي الحب في الله والبغض في الله .
المرتبة الرابعة : الوجود وهي أعلى ذروة مقام الإحسان . فمن مقام الإحسان يرقى إليه . فإنه إذا غلب على قلبه مشاهدة معبوده ، حتى كأنه يراه - وتمكن في ذلك - صار له ملكة أخمدت أحكام نفسه ، وتبدل بها أحكاما أخر ، وطبيعة ثانية ، حتى كأنه أنشئ نشأة أخرى غير نشأته الأولى ، وولد ولادا جديدا .
ومما يذكر عن المسيح عليه السلام أنه قال : يا بني إسرائيل ، لن تلجوا ملكوت السماء حتى تولدوا مرتين .
سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يذكر ذلك . ويفسره بأن الولادة نوعان . أحدهما : هذه المعروفة ، والثانية : ولادة القلب والروح وخروجهما من مشيمة النفس ، وظلمة الطبع .
قال : وهذه الولادة لما كانت بسبب الرسول كان كالأب للمؤمنين ، وقد قرأ - رضي الله عنه - " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم " . أبي بن كعب
قال : ومعنى هذه الآية والقراءة في قوله تعالى وأزواجه أمهاتهم إذ ثبوت أمومة أزواجه لهم : فرع عن ثبوت أبوته .
قال : فالشيخ والمعلم والمؤدب أب الروح . والوالد أب الجسم .
ويقال في الحب وجد ، وفي الغضب موجدة ، وفي الظفر وجدان ووجود .