فمن الحوادث فيها مقتل عبد الله بن الزبير
قد ذكرنا أن حصر لهلال ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين ، وما زال ابن الزبير الحجاج يحصره ثمانية أشهر وسبع عشرة ليلة . وكانوا يضربونه بالمنجنيق .
قال يوسف بن ماهك: رأيت المنجنيق يرمى به فرعدت السماء وبرقت ، وعلا صوت كالرعد ، فأعظم ذلك أهل الشام ، فأمسكوا أيديهم ، فرفع الحجاج حجر المنجنيق فوضعه ثم قال: ارموا ، ثم رمى معهم ، ثم جاءت صاعقة تتبعها أخرى ، فقتلت من أصحابه اثني عشر رجلا ، فانكسر أهل الشام ، فقال الحجاج: لا تنكروا هذا فإني ابن تهامة ، هذه صواعق تهامة ، هذا الفتح قد حضر ، فصعقت من الغد صاعقة ، فأصيب من أصحاب عشرة ، فقال ابن الزبير الحجاج: ألا ترون أنهم يصابون .
أخبرنا إسماعيل بن أحمد ، قال: أخبرنا عمر بن عبيد الله البقال ، قال: أخبرنا أبو الحسين بن بشران ، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد الدقاق ، قال حدثنا قال: أخبرنا حنبل بن إسحاق ، قال: حدثنا الحميدي ، سفيان ، قال: كانوا يرمون المنجنيق من أبي قبيس ويرتجزون:
خطارة مثل الفنيق المزبد أرمي بها أعواد هذا المسجد
[ ص: 125 ]قال: فجاءت صاعقة فأحرقتهم ، فامتنع الناس من الرمي فخطبهم الحجاج فقال: ألم تعلموا أن بني إسرائيل كانوا إذا قربوا قربانا فجاءت نار فأكلته علموا أنه قد تقبل منهم ، وإن لم تأكله قالوا: لم تقبل ، فما زال يخدعهم حتى عادوا فرموا .
قال علماء السير: فلم تزل الحرب إلى قبيل مقتل فتفرق عامة أصحابه وخذلوه ، وخرج عامة أهل ابن الزبير ، مكة إلى الحجاج في الأمان حتى ذكر [أن] ولديه حمزة وحبيبا أخذوا لأنفسهما أمانا ، فدخل على أمه عبد الله بن الزبير أسماء حين رأى من الناس ما رأى من الخذلان ، فقال لها: خذلتني الناس حتى ولدي وأهلي ، فلم يبق معي إلا من ليس عنده من الدفع أكثر من ساعة ، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا ، فما رأيك؟ فقالت: أنت والله يا بني أعلم بنفسك ، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له ، وقد قتل عليك أصحابك ، ولا تمكن من رقبتك فينقلب بها غلمان بني أمية ، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت ، أهلكت نفسك وأهلكت من قتل معك . وإن قلت: كنت على الحق فلما وهن أصحابك ضعفت ، فليس هذا فعل الأحرار ولا أهل الدين ، وكم خلودك في الدنيا؟! القتل [القتل] أحسن .
فدنا فقبل رأسها وقال: هذا والله رأيي ، والذي قمت به ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها ، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله عز وجل أن تستحل حرمته ، ولكنني أحببت أن أعلم رأيك في مثل ذلك ، فانظري يا أمي فإني مقتول في يومي هذا ، فلا يشتد حزنك ، وسلمي الأمر لله ، فإن ابنك لم يتعمد إتيان منكر ، ولا عمدا بفاحشة ، ولم يجر في حكم الله عز وجل ، ولم يتعمد ظلم مسلم ولا معاهد ، ولم يبلغني ظلم عن عمالي فرضيت به بل أنكرته ، ولم يكن شيء آثر عندي من رضا [ ص: 126 ] ربي عز وجل ، اللهم إني لا أقول هذا تزكية [مني لنفسي] ، أنت أعلم بي ، ولكن أقوله تعزية لأمي لتسلو عني . ابن الزبير
فقالت: إني لأرجو من الله عز وجل أن يكون عزائي فيك حسنا إن تقدمتني ، اخرج حتى أنظر ما يصير أمرك ، فقال: جزاك الله يا أماه خيرا ، ولا تدعي الدعاء لي قبل وبعد . فقالت: لا أدعه أبدا ، فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق . ثم قالت: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل ، وذلك النحيب في الظلماء ، وذلك الصوم في هواجر المدينة ومكة ، وبره بأبيه وبي ، اللهم إني قد أسلمته لأمرك فيه ، ورضيت بما قضيت ، فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين .
وفي رواية أخرى: أنه دخل عليها وعليه الدرع والمغفر ، فوقف فسلم ثم دنا ، فتناول يدها فقبلها ، فقالت: هذا وداع فلا تقعد ، فقال: جئت مودعا ، إني لأرى هذا آخر أيامي من الدنيا ، واعلمي يا أماه أني إن قتلت فإنما أنا لحم لا يضرني ما صنع بي ، قالت: صدقت يا بني ، أتمم على نصرتك ، ولا تمكن ابن أبي عقيل منك ، ادن مني أودعك . فدنا منها فودعها وقبلها وعانقها ، وقالت حيث مست الدرع: ما [هذا] صنيع من يريد ما تريد ، قال: ما لبست [هذا] الدرع إلا لأشد منك ، قالت: فإنه لا يشد مني . ثم انصرف وهو يقول:
إني إذا أعرف يومي أصبر إذ بعضهم يعرف ثم ينكر
كتب القتل والقتال علينا وعلى المحصنات جر الذيول
ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما
فلسنا على الأعقاب تدمي كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
وجاء الخبر إلى الحجاج فسجد وسار حتى وقف عليه ومعه طارق بن عمرو ، فقال طارق: ما ولدت النساء أذكر من هذا ، فبعث الحجاج رأسه ورأس ورأس عبد الله بن صفوان عمارة بن عمرو إلى المدينة ، فنصبت بها ، ثم ذهب بها إلى عبد الملك ، وسيأتي تمام قصة في ذكر من مات في هذه السنة . ابن الزبير