( الحمد لله ) افتتح كتابه بعد التيمن بالبسملة بحمد الله تعالى أداء لحق شيء مما يجب عليه من شكر نعمائه التي تأليف هذا الكتاب أثر من آثارها ، واقتداء بالكتاب العزيز ، وعملا بخبر { } وفي رواية { كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع } وفي رواية { بالحمد لله } وفي رواية " بالحمد " وفي رواية { بحمد الله } رواه كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم وغيره وحسنه أبو داود وغيره . ومعنى ذي بال : أي حال يهتم به ، وفي رواية ابن الصلاح : { لأحمد } فإن قيل نرى كثيرا من الأمور يبتدأ فيها بسم الله ولا تتم وكثيرا بعكس ذلك . قلنا : ليس المراد التمام الحسي ، ولهذا [ ص: 25 ] قال بعضهم : المراد من كونه ناقصا أن لا يكون معتبرا في الشرع ، ألا ترى أن الأمر الذي ابتدئ فيه بغير اسم الله غير معتبر شرعا وإن كان تاما حسا . ولا تعارض بين روايتي البسملة والحمدلة ; لأن الابتداء حقيقي وإضافي ، فالحقيقي حصل بالبسملة والإضافي بالحمدلة ، أو لأنه أمر عرفي يعتبر ممتدا فيسع أمرين أو أكثر ، أو ; لأن المقصود الابتداء بذكر الله على أي وجه كان بدليل رواية لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر وأقطع . السابقة . أحمد
والحمد اللفظي لغة : هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري على قصد التعظيم سواء أتعلق بالفضائل أم بالفواضل ، وعرفا : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعما على الحامد أو غيره سواء كان ذكرا باللسان أم اعتقادا ومحبة بالجنان أم عملا وخدمة بالأركان " فمورد اللغوي [ ص: 26 ] هو اللسان وحده ومتعلقه يعم النعمة وغيرها ، ومورد العرفي يعم اللسان وغيره ومتعلقه يكون النعمة وحدها ، فاللغوي أعم باعتبار المتعلق وأخص باعتبار المورد ، والعرفي بالعكس . والشكر لغة : فعل ينبئ عن تعظيم المنعم لكونه منعما على الشاكر . وعرفا : صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله . والمدح لغة : الثناء باللسان على الجميل مطلقا على قصد التعظيم ، وعرفا : ما يدل على اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل ، والذم نقيض الحمد ، والكفران نقيض الشكر ، والهجو نقيض المدح ، وجملة الحمد لله خبرية لفظا إنشائية معنى لحصول الحمد بها مع الإذعان لمدلولها .
وقيل إنها خبرية لفظا ومعنى ، ويجوز أن تكون موضوعة شرعا للإنشاء ، والحمد مختص بالله كما أفادته الجملة ، سواء أجعلت لام التعريف فيه للاستغراق كما عليه الجمهور وهو ظاهر ، أم للجنس كما عليه ; لأن لام لله للاختصاص فلا مرد منه لغيره ، إذ الحمد في الحقيقة كله [ ص: 27 ] له ، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط أو غير وسط كما قال تعالى { الزمخشري وما بكم من نعمة فمن الله } وفيه إشعار بأنه تعالى حي قادر مريد عالم ، إذ الحمد لا يستحقه إلا من كان هذا شأنه ، أم للعهد كالتي في قوله تعالى { إذ هما في الغار } كما نقله الشيخ عز الدين بن عبد السلام ، وأجازه الواحدي على معنى أن الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه مختص به ، والعبرة بحمد من ذكر فلا مرد منه لغيره ، وأولى الثلاثة الجنس ، ولما كان استحقاقه لجميع المحامد لذاته لم يقل الحمد للخالق أو للرازق أو نحوه لئلا يوهم أن استحقاقه الحمد لذلك الوصف ، إذ تعليق الحكم بالمشتق يشعر بعلية المشتق منه لذلك الحكم ، والحمد لله ثمانية أحرف وأبواب الجنة ثمانية ، فمن قالها عن صفاء قلبه استحق ثمانية أبواب الجنة .
( البر ) بفتح الباء : أي المحسن ، وقيل اللطيف ، وقيل الصادق فيما وعد ، وقيل خالق البر بكسر الباء الذي هو اسم جامع للخير ، وقيل الرفيق بعباده يريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، ويعفو عن كثير من سيئاتهم ولا يؤاخذهم بجميع جناياتهم ، ويجزيهم بالحسنة عشر أمثالها ولا يجزيهم بالسيئة إلا مثلها ، ويكتب لهم الهم بالحسنة ولا يكتب عليهم الهم بالسيئة ، ذكره في كتابه الأسماء والصفات ( الجواد ) [ ص: 28 ] بالتخفيف : أي الكثير الجود أي العطاء ، قيل لم يرد بالجواد توقيف وأسماؤه تعالى توقيفية ، فلا يجوز اختراع اسم أو وصف له سبحانه وتعالى إلا بقرآن أو خبر صحيح مصرح به لا بأصله الذي اشتق منه فحسب : أي وبشرط أن لا يكون ذكره لمقابلة كما هو ظاهر نحو { البيهقي أم نحن الزارعون } { والله خير الماكرين } وليس كذلك ، بل رواه الترمذي في جامعه في الأسماء والصفات مرسلا واعتضد بمسند وبالإجماع . والبيهقي
( الذي جلت ) أي عظمت والجليل العظيم ( نعمه ) جمع نعمة بكسر النون بمعنى إنعام وهو الإحسان ، وأما النعمة بفتح النون فهي التنعم وبضمها المسرة ( عن الإحصاء ) بكسر الهمزة وبالمد : أي الضبط قال تعالى { أحصاه الله ونسوه } ( بالأعداد ) بفتح الهمزة : أي [ ص: 29 ] بجميعها إذ اللام فيها للاستغراق ، فاندفع ما قيل إن الأعداد جمع قلة ، والشيء قد لا يضبطه الشيء القليل ويضبطه الكثير ، فكان الصواب أن يعدل عنه ، ويعبر بالتعداد ونحوه والباء في الأعداد للاستعانة أو المصاحبة ، ونعم الله تعالى وإن كانت لا تحصى تنحصر في جنسين دنيوي وأخروي والأول قسمان موهبي وكسبي . والموهبي قسمان : روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفكر والفهم والنطق . وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء .
والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق والملكات الفاضلة وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلي المستحسنة وحصول الجاه والمال ، والثاني أن يعفو عما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين .
( المان ) أي المنعم منا منه لا وجوبا عليه . وقيل المان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال ، وأما كون المان بمعنى معدد النعم وإن كان صفة مدح في حق الله تعالى لكنه لا يناسب هذا التركيب ( باللطف ) أي بالإقدار على الطاعة ، إذ هو بضم اللام وسكون الطاء الرأفة والرفق ، وهو من الله خلق قدرة الطاعة في العبد ، وبفتح اللام والطاء لغة فيه ، [ ص: 30 ] ويطلق على ما يبر به الشخص ( والإرشاد ) أي الهداية للطاعة فإنه مصدر أرشده بمعنى وفقه وهداه ، والرشاد والرشد بضم الراء وإسكان الشين وبفتحها نقيض الغي وهو الهدى والاستقامة ، يقال رشد يرشد رشدا بوزن عجب يعجب عجبا وبوزن أكل يأكل أكلا بضم الهمزة ( الهادي إلى سبيل الرشاد ) أي الدال على طريق الاستقامة بلطف ، ومن أسمائه الهادي وهو الذي بصر عباده طريق معرفته حتى أقروا بربوبيته .
وهداية الله تعالى تتنوع أنواعا لا يحصيها عد لكنها تنحصر في أجناس مترتبة :
الأول إفاضة القوى التي يتمكن بها من الاهتداء إلى مصالحه كالقوة العقلية والحواس الباطنية والمشاعر الظاهرة .
والثاني نصب الدلائل الفارقة بين الحق والباطل والصلاح والفساد .
والثالث الهداية بإرسال الرسل وإنزال الكتب .
والرابع أن يكشف على قلوبهم السرائر ويريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام والمنامات الصادقة وهذا قسم يختص بنيله الأنبياء والأولياء ( الموفق للتفقه ) اللام فيه للتعدية ( في الدين من لطف به ) مفعول الموفق والضمير في به لمن باعتبار لفظها ( واختاره ) له ( من العباد ) المفعول الثاني لاختار ، [ ص: 31 ] واللام فيه للجنس أو للاستغراق أو للعهد ، وأشار بهذا إلى خبر { } متفق عليه ، والتوفيق خلق قدرة الطاعة وتسهيل سبيل الخير ، ويعبر عنه بما يقع عند صلاح العبد أخرة وهو عكس الخذلان . من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
وفي الحديث { لا يتوفق عبد حتى يوفقه الله } وفي أوائل الإحياء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { قليل من التوفيق خير من كثير من العلم } قال القاضي الحسين : والتوفيق المختص بالمتعلم أربعة أشياء : شدة العناية ، ومعلم ذو نصيحة ، وذكاء القريحة واستواء الطبيعة : أي خلوها عن الميل لغير ذلك وإن لم يرتسم فيها وتتكيف بما يخالف الشيء الملقى إليها . ولما كان التوفيق عزيزا لم يذكر في القرآن إلا في قوله تعالى { وما توفيقي إلا بالله } { إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما } { إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا } وظاهر أن المراد ذكر لفظه وإلا فالآيتان المتأخرتان ليستا من التوفيق المذكور .
والتفقه أخذ الفقه شيئا فشيئا . والفقه لغة الفهم ، وقيل فهم ما دق . قال النووي : يقال فقه يفقه فقها كفرح يفرح فرحا ، وقيل فقها بسكون القاف وغيره يقال : فقه بالكسر إذا فهم ، وفقه بالضم إذا صار وابن القطاع له سجية ، وفقه بالفتح إذا سبق غيره إلى الفهم . الفقه
وشرعا : العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية وموضوعه أفعال المكلفين ; لأنه يبحث فيه عنها ، والدين ما شرعه الله من الأحكام ، وهو وضع [ ص: 32 ] سائق إلهي لذوي العقول باختيارهم المحمود إلى ما هو خير بالذات .
وقيل الطريقة المخصوصة المشروعة ببيان النبي صلى الله عليه وسلم المشتملة على الأصول والفروع والأخلاق والآداب ، سميت من حيث انقياد الخلق لها دينا ، ومن حيث إظهار الشارع إياها شرعا وشريعة ، ومن حيث إملاء الشارع إياها ملة ( أحمده أبلغ حمد ) أي أنهاه ( وأكمله ) أي أتمه . قال بعضهم : قصد بذلك أن يكون حمده على الوجه الذي عليه أهل الحق لا كما وقع للمعتزلة من نفي صفاته الحقيقية وبعض الإضافية ( وأزكاه ) أي أنماه ( وأشمله ) أي أعمه .
المعنى : أصفه بجميع صفاته ; لأن كلا منها جميل ، ورعاية جميعها أبلغ في التعظيم المراد بما ذكر ، إذ المراد به إيجاد الحمد لا الإخبار بأنه سيوجد ، وهو أبلغ من حمده الأول كما أفاده الشارح ; لأنه ثناء بجميع الصفات برعاية الأبلغية كما تقدم ، وذاك بواحدة منها وهي الثناء عليه بأنه مالك لجميع الحمد من الخلق ، أو مستحق لأن يحمدوه ، وإن لم تراع الأبلغية هنا بأن يراد الثناء بالجميل فإنه يصدق بالثناء بكل الصفات وببعضها ، وذلك البعض أعم من تلك الصفة لصدقه بها وبغيرها وبها مع غيرها الكثير فالثناء به أبلغ من الثناء بما في الجملة أيضا ، نعم الثناء بها من حيث تفصيلها أوقع في النفس من الثناء به .
واعترض بأنه كيف يتصور أن يصدر منه عموم الحمد مع أن بعض المحمود عليه وهو النعم لا يتصور حصرها كما سبق . وأجيب بأن المراد نسبة عموم المحامد إلى الله تعالى على جهة الإجمال بأن يعترف مثلا باتصاف الله تعالى بجميع [ ص: 33 ] صفات الكمال الجلالية والجمالية ، وقد عبر المصنف أولا بالجملة الاسمية الدالة على الدوام والثبوت " وثانيا بالجملة الفعلية الدالة على التجدد والحدوث ، واقتدى في ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ففي خبر وغيره أن الحمد لله نحمده ونستعينه ( وأشهد ) أي أعلم ( أن لا إله ) أي لا معبود بحق في الوجود ( إلا الله ) الواجب الوجود ( الواحد ) أي الذي لا تعدد له فلا ينقسم بوجه ولا نظير له ، فلا مشابهة بينه وبين غيره بوجه ( الغفار ) أي الستار لذنوب من أراد من عباده المؤمنين فلا يظهرها بالعقاب عليها . مسلم
وقد صرح بكلمة لا إله إلا الله في القرآن في سبعة وثلاثين موضعا ، ولم يقل القهار بدل الغفار ; لأن معنى القهر مأخوذ مما قبله ، إذ من شأن الواحد في ملكه القهر . ولما كان من شروط الإسلام ترتيب الشهادتين عطف المصنف الشهادة الثانية على الأولى فقال ( وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى المختار ) من الخلق لدعوة من بعث إليه من الأحمر والأسود إلى دين الإسلام ، وقول الشارح من الناس ليدعوهم فيه إشارة إلى أنه لم يبعث إلى الملائكة وهو الراجح كما أوضحه الوالد رحمه الله في فتاويه ، [ ص: 34 ] لكن عبارة الشارح قد تخرج الجن مع أنه مبعوث إليهم ، فإما أن يقال بشمول الناس لهم كما عزي وعليه فلا اعتراض ، أو أنهم دخلوا بدليل آخر . للجوهري ومحمد علم منقول من اسم المفعول المضعف سمي به نبيا بإلهام من الله تعالى تفاؤلا بأنه يكثر حمد الخلق له لكثرة خصاله المحمودة ، كما روي في السير أنه قيل لجده عبد المطلب وقد سماه في سابع ولادته لموت أبيه قبلها : لم سميت ابنك محمدا وليس من أسماء آبائك ولا قومك ؟ فقال : رجوت أن يحمد في السماء والأرض ، وقد حقق الله رجاءه كما سبق في علمه قال العلماء : ليس للمؤمن صفة أتم ولا أشرف من العبودية ، ولهذا أطلقها الله على نبيه في أشرف المواطن كقوله تعالى { سبحان الذي أسرى بعبده } { الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب } { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } { فأوحى إلى عبده ما أوحى } وقد روي { أن الله تعالى قال للنبي صلى الله عليه وسلم : بم أشرفك ؟ قال : بأن تنسبني إليك بالعبودية } .