دواء اللواط
فإن قيل : فهل مع هذا كله دواء لهذا الداء العضال ؟ ورقية لهذا السحر القتال ؟ وما الاحتيال لدفع هذا الخبال ؟ وهل من طريق قاصد إلى التوفيق ؟ وهل يمكن السكران بخمر الهوى أن يفيق ؟ وهل يملك العاشق قلبه والعشق قد وصل إلى سويدائه ؟ وهل للطبيب بعد ذلك حيلة في برئه من سويدائه ؟ وإن لامه لائم التذ بملامه ذكرا لمحبوبه ، وإن عذله عاذل أغراه عذله ، وسار به في طريق مطلوبه ، ينادي عليه شاهد حاله بلسان مقاله :
وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي متأخر عنه ولا متقدم وأهنتني فأهنت نفسي جاهدا
ما من يهون عليك ممن يكرم أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
إذ كان حظي منك حظي منهم أجد الملامة في هواك لذيذة
حبا لذكرك فليلمني اللوم
ولعل هذا هو المقصود بالسؤال الأول الذي وقع عليه الاستفتاء ، والداء الذي طلب له الدواء .
قيل : نعم ، الجواب من رأس : " ما أنزل الله سبحانه من داء إلا جعل له دواء ، علمه من علمه وجهله من جهله " .
والكلام في دواء داء تعلق القلب بالمحبة الهوائية من طريقين :
أحدهما : حسم مادته قبل حصولها .
[ ص: 178 ] والثاني : قلعها بعد نزوله ، وكلاهما يسير على من يسره الله عليه ، ومتعذر على من لم يعنه الله ، فإن أزمة الأمور بيديه .
فأما الطريق المانع من حصول هذا الداء ، فأمران :
منافع غض البصر
كما تقدم ، فإن النظرة سهم مسموم من سهام إبليس ، ومن أطلق لحظاته دامت حسراته ، وفي غض البصر عدة منافع : غض البصر
أحدها : أنه امتثال لأمر الله الذي هو غاية سعادة العبد في معاشه ومعاده ، فليس للعبد في دنياه وآخرته أنفع من امتثال أوامره ، وما شقي من شقي في الدنيا والآخرة إلا بتضييع أوامره .
الثانية : أنه يمنع من وصول أثر السهم المسموم - الذي لعل فيه هلاكه - إلى قلبه .
الثالثة : أنه يورث القلب أنسا بالله وجمعية عليه ، فإن إطلاق البصر يفرق القلب ويشتته ، ويبعده عن الله ، وليس على القلب شيء أضر من إطلاق البصر ، فإنه يورث الوحشة بين العبد وربه .
الرابعة : أنه يقوي القلب ويفرحه ، كما أن إطلاق البصر يضعفه ويحزنه .
الخامسة : أنه يكسب القلب نورا ، كما أن إطلاقه يلبسه ظلمة ، ولهذا ذكر الله سبحانه آية النور عقيب الأمر بغض البصر ، فقال : قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم [ سورة النور : 30 ] .
ثم قال إثر ذلك : الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح [ سورة النور : 35 ] .
أي مثل نوره في قلب عبده المؤمن الذي امتثل أوامره واجتنب نواهيه ، وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه من كل ناحية ، كما أنه إذا أظلم أقبلت سحائب البلاء والشر عليه من كل مكان ، فما شئت من بدع وضلالة ، واتباع هوى ، واجتناب هدى ، وإعراض عن أسباب السعادة ، واشتغال بأسباب الشقاوة ، فإن ذلك إنما يكشفه له النور الذي في القلب ، فإذا نفذ ذلك النور بقي صاحبه كالأعمى الذي يجوس في حنادس الظلام .
السادسة : أنه يورث فراسة صادقة يميز بها بين الحق والباطل ، والصادق والكاذب ، [ ص: 179 ] وكان شجاع الكرماني يقول : من عمر ظاهره باتباع السنة ، وباطنه بدوام المراقبة ، وغض بصره عن المحارم ، وكف نفسه عن الشبهات ، واغتذى بالحلال ، لم تخطئ له فراسة وكان شجاعا لا تخطئ له فراسة .
والله سبحانه يجزي العبد على عمله بما هو من جنس عمله ، ومن ترك لله شيئا عوضه الله خيرا منه ، فإذا غض بصره عن محارم الله ، عوضه الله بأن يطلق نور بصيرته ، عوضا عن حبس بصره لله ، ويفتح عليه باب العلم والإيمان ، والمعرفة والفراسة الصادقة المصيبة التي إنما تنال ببصيرة ، فقال تعالى : لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [ سورة الحجر : 27 ] .
فوصفهم بالسكرة التي هي فساد العقل ، والعمه الذي هو فساد البصيرة ، فالتعلق بالصور يوجب فساد العقل ، وعمه البصيرة ، وسكر القلب ، كما قال القائل :
سكران سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران
وقال الآخر :
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في الحين
السابعة : أنه يورث القلب ثباتا وشجاعة وقوة ، فجمع الله له بين سلطان النصرة والحجة ، وسلطان القدرة والقوة ، كما في الأثر : " الذي يخالف هواه ، يفر الشيطان من ظله " .
وضد هذا تجد في المتبع لهواه - من ذل النفس ووضاعتها ومهانتها وخستها وحقارتها - ما جعله الله سبحانه فيمن حصاه .
كما قال الحسن : " إنهم وإن طقطقت بهم البغال ، وهملجت بهم البراذين ، إن ذل المعصية في رقابهم ، أبى الله إلا أن يذل من عصاه " .
وقد جعل الله سبحانه العز قرين طاعته ، والذل قرين معصيته ، فقال تعالى : ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين [ سورة المنافقون : 8 ] .
وقال تعالى : ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين [ سورة آل عمران : 139 ] .
[ ص: 180 ] والإيمان قول وعمل ، ظاهر وباطن ، وقال تعالى : من كان يريد العزة فلله العزة جميعا إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه [ سورة فاطر : 10 ] .
أي من كان يريد العزة فليطلبها بطاعة الله وذكره من الكلم الطيب والعمل الصالح .
وفي دعاء القنوت : " إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت " ومن أطاع الله فقد والاه فيما أطاعه فيه ، وله من العز بحسب طاعته ، ومن عصاه فقد عاداه فيما عصاه فيه ، وله من الذل بحسب معصيته .
الثامن : أنه يسدل على الشيطان مدخله من القلب ، فإنه يدخل مع النظرة وينفذ معها إلى القلب أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي ، فيمثل له صورة المنظور إليه ويزينها ، ويجعلها صنما يعكف عليه القلب ثم يعده ويمنيه ، ويوقد على القلب نار الشهوة ، ويلقي عليها حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة ، فيصير القلب في اللهب .
فمن ذلك اللهب تلك الأنفاس التي يجد فيها وهج النار ، وتلك الزفرات والحرقات ، فإن القلب قد أحاطت به النيران بكل جانب ، فهو في وسطها كالشاة في وسط التنور ، ولهذا كانت عقوبة أصحاب الشهوات للصور المحرمة : أن جعل لهم في البرزخ تنور من النار ، وأودعت أرواحهم فيه إلى يوم حشر أجسادهم ، كما أراها الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في المنام في الحديث المتفق على صحته .
التاسعة : أنه يفرغ القلب للفكرة في مصالحه والاشتغال بها ، وإطلاق البصر ينسيه ذلك ويحول بينه وبينه ، فينفرط عليه أمره ويقع في اتباع هواه وفي الغفلة عن ذكر ربه ، قال تعالى : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا [ سورة الكهف : 28 ] .
وإطلاق النظر يوجب هذه الأمور الثلاثة بحسبه .
العاشرة : أن بين العين والقلب منفذا وطريقا يوجب انتقال أحدهما عن الآخر ، وأن يصلح بصلاحه ، ويفسد بفساده ، فإذا فسد القلب ؛ فسد النظر ، وإذا فسد النظر ؛ فسد القلب ، وكذلك في جانب الصلاح ، فإذا خربت العين وفسدت ؛ خرب القلب وفسد ، وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ ، فلا يصلح لسكنى معرفة الله ومحبته والإنابة إليه ، والأنس به والسرور بقربه فيه ، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك .
فهذه إشارة إلى بعض فوائد غض البصر نطلعك على ما وراءها :
[ ص: 181 ]
منع تعلق القلوب
الطريق الثاني : اشتغال القلب بما يصده عن ذلك ، ويحول بينه وبين الوقوع فيه ، وهو إما خوف مقلق أو حب مزعج ، فمتى خلا القلب من خوف ما فواته أضر عليه من حصول هذا المحبوب ، أو خوف ما حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب ، أو محبته ما هو أنفع له وخير له من هذا المحبوب ، وفواته أضر عليه من فوات هذا المحبوب ، لم يجد بدا من عشق الصور . المانع من حصول تعلق القلب
وشرح هذا : أن النفس لا تترك محبوبا إلا لمحبوب أعلى منه ، أو خشية مكروه حصوله أضر عليه من فوات هذا المحبوب ، وهذا يحتاج صاحبه إلى أمرين إن فقدهما أو أحدهما لم ينتفع بنفسه .
أحدهما : بصيرة صحيحة يفرق بها بين درجات المحبوب والمكروه ، فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما ، ويحتمل أدنى المكروهين ليخلص من أعلاهما ، وهذا خاصة العقل ، ولا يعد عاقلا من كان بضد ذلك ، بل قد تكون البهائم أحسن حالا منه .
الثاني : قوة عزم وصبر يتمكن به من هذا الفعل والترك ، فكثيرا ما يعرف الرجل قدر التفاوت ، ولكن يأبى له ضعف نفسه وهمته وعزيمته على أشياء لا تنفع من خسته وحرصه ووضاعة نفسه وخسة همته ، ومثل هذا لا ينتفع بنفسه ، ولا ينتفع به غيره ، وقد منع الله سبحانه إمامة الدين إلا من أهل الصبر واليقين ، فقال تعالى ، وبقوله يهتدي المهتدون منهم : وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون [ سورة السجدة : 24 ] .
وهذا هو الذي ينتفع بعلمه ، وينتفع به الناس ، وضده لا ينتفع به غيره ، ومن الناس من ينتفع بعلمه في نفسه ولا ينتفع به غيره ، فالأول يمشي في نوره ويمشي الناس في نوره ، والثاني قد طفئ نوره ، فهو يمشي في الظلمات ومن تبعه في ظلمته ، والثالث يمشي في نوره وحده .