فصل
قوله : فما أفسد أديان الرسل إلا أرباب منازعات العقول ، الذين ينازعون بمعقولهم في التصديق بما جاءت به ، وإثبات ما أثبتوه ، ونفي ما نفوه ، فنازعت عقولهم ذلك ، وتركوا لتلك المنازعات ما جاءت به الرسل ، ثم عارضوهم بتلك المعقولات ، وقدموها على ما جاءوا به ، وقالوا : إذا تعارضت عقولنا وما جاءت به الرسل : قدمنا ما حكمت به عقولنا على ما جاءوا به ، وقد هلك بهؤلاء طوائف لا يحصيهم إلا الله ، وانحلوا بسببهم من أديان جميع الرسل . والصعود عن منازعات العقول ، هذا حق ، ولا يتم التوحيد والإيمان إلا به ،
قوله " ومن التعلق بالشواهد " كلام فيه إجمال ، فالشواهد : هي الأدلة والآيات ، فترك التعلق بها انسلاخ عن العلم والإيمان بالكلية ، والتعلق بها وحدها ، دون من نصبها شواهد وأدلة انقطاع عن الله ، وشرك في التوحيد ، والتعلق بها استدلالا ، ونظرا [ ص: 465 ] في آيات الرب ، ليصل بها إلى الله هو التوحيد والإيمان .
وأحسن ما يحمل عليه كلامه : أنه يصعد عن الوقوف معها ، فإنها وسائل إلى المقصود ، فلا ينقطع بالوسيلة عن المقصود ، وهذا حق ، لكن قوله " وهو أن لا يشهد في التوحيد دليلا " يكدر هذا المعنى ويشوشه ، وليس بصحيح ، بل الواجب : أن يشهد الأمر كما أشهده الله إياه ، فإن الله سبحانه نصب الأدلة على التوحيد ، وأقام البراهين وأظهر الآيات ، وأمرنا أن نشهد الأدلة والآيات ، وننظر فيها ونستدل بها ، ولا يجتمع هذا الإثبات وذلك النفي البتة ، والمخلوقات كلها آيات للتوحيد ، وكذلك الآيات المتلوة أدلة على التوحيد ، فكيف لا يشهدها دليلا عليه ؟ هذا من أبطل الباطل ، بل التوحيد - كل التوحيد - أن يشهد كل شيء دليلا عليه ، مرشدا إليه ، ومعلوم أن ، فكيف لا يشهدهم كذلك ؟ وكيف يجتمع الإيمان بهم وعدم شهودهم أدلة للتوحيد ؟ الرسل أدلة للتوحيد
فانظر ماذا أدى إليه ، فهذا هو مقتضاه وطرده ، وإلا تناقض أصحابه ، وقد قال الله تعالى لرسوله إنكار الأسباب ، والسلوك على درب الفناء في توحيد الأفعال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم وقال تعالى ولكل قوم هاد والهادي : هو الدليل الذي يدل بهم في الطريق إلى الله ، والدار الآخرة ، ولا يناقض هذا قوله إنك لا تهدي من أحببت وقوله فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء فإن الله سبحانه تكلم بهذا وهذا ، فرسله الهداة هداية الدلالة والبيان ، وهو الهادي هداية التوفيق والإلهام ، فالرسل هم الأدلة حقا ، والله سبحانه هو الموفق الملهم ، الخالق للهدى في القلوب .
قوله " ولا في التوكل سببا " يريد : أنك تجرد التوكل عن الأسباب ، فإن أراد تجريده عن القيام بها : فباطل ، كما تقدم ، وإن أراد تجريده عن الركون إليها ، والوقوف معها ، والوثوق بها : فهو حق ، وإن أراد تجريده عن شهودها : فشهودها على ما هي عليه أكمل ، ولا يقدح في التوحيد بوجه ما .
وكذلك قوله " ولا في النجاة وسيلة " إنما يصح على وجه واحد ، وهو أن يشهد [ ص: 466 ] حصول النجاة بمجرد الوسائل من الأعمال والأسباب ، وأما إلغاء كونها وسائل : فباطل ، يخالف الشرع والعقل ، وأما عدم شهودها وسائل ، مع اعتقاد كونها وسائل : فليس بكمال ، وشهودها وسائل - كما جعلها الله سبحانه - أكمل مشهدا ، وأصح طريقة ، وبالله التوفيق .
وقد بينا - فيما تقدم - أن الكمال : أن تشهد العبودية وقيامك بها ، وتشهد أنها من عين المنة والفضل ، وتشهد المعبود ، فلا تغيب بشهوده عن شهود أمره ، ولا تغيب بشهود أمره عن شهوده ، ولا تغيب بشهوده وشهود أمره عن شهود فضله ومنته وتوفيقه ، وشهود فقرك وفاقتك ، وأنك به لا بك ، وقد ولم يقل لهم : لا تشهدوا في التوحيد دليلا ، ولا في النجاة وسيلة ، بل كان من أسباب مباهاة الله بهم الملائكة : شهودهم سبب التوحيد ، ووسيلة النجاة ، وأنها من من الله عليهم ، كما قال تعالى خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما على حلقة من أصحابه ، وهم يتذاكرون ، فقال : ما أجلسكم ؟ قالوا : جلسنا نذكر ما من الله به علينا ، وهدانا بك إلى الإسلام ، فقال : آلله ، ما أجلسكم إلا ذلك ؟ قالوا : آلله ما أجلسنا إلا ذلك ، فقال : أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ، ولكن الله يباهي بكم الملائكة لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة فكيف يكون كمالهم في أن لا يشهدوا الدليل الذي يزكيهم ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويهديهم ؟ ويسقطونه من الشهود والسببية ؟
قوله : " فيكون شاهدا سبق الحق بعلمه وحكمه ، ووضعه الأشياء مواضعها ، وتعليقه إياها بأحايينها ، وإخفائه إياها في رسومها .
ليس الشهود هاهنا متعلقا بمجرد أزلية الرب تعالى ، وتقدمه على كل شيء فقط ، بل متعلق بسبق العلم والتقدير ، فيرى الأشياء بعين سوابقها ، وقد تقررت هناك في علم الرب وتقديره ، فينظر إليها هناك إذا نظر الناس إليها هنا ، فيتجاوز نظره نظرهم ، فيغلب شهود السوابق على ملاحظة اللواحق ، فيشهد تفرد الرب وحده ، حيث لا موجود سواه ، وقد علم الكائنات وقدر مقاديرها ، ووقت مواقيتها ، وقررها على مقتضى علمه وحكمته ، وقد سبق العلم المعلوم ، والقدر المقدور والإرادة المراد ، فيرى الأشياء كلها ثابتة في علم الله سبحانه وحكمته قبل وجود العوالم ، فأي وسيلة يشهد هناك ؟ وأي [ ص: 467 ] سبب ؟ وأي دليل هذا الذي يدندن الشيخ حوله ؟ وقد عرفت أن العلم والحكم سبق بوجود المسببات عن أسبابها وارتباطها بوسائلها وأدلتها ، كما سبق العلم والحكم بوجود الولد عن أبويه ، والمطر عن السحاب ، والنبات عن الماء ، والإزهاق عن القتل ، وأسباب الموت ، فهذه هي المشاهدة الصحية ، لا إسقاط الأسباب والوسائل والأدلة .
قوله : " ووضع الأشياء مواضعها ، وتعليقها بأحايينها ، وإخفائها في رسومها " ، هذه ثلاثة أشياء - المكان ، والزمان ، والمادة - التي لابد لكل مخلوق منها ، فإن المخلوق لابد له من زمان يوجد فيه ، ومكان يستقر فيه ، ومادة يوجد بها ، فأشار إلى الثلاثة ، فالمواضع : الأمكنة ، والأحايين : الأزمنة ، والرسوم : المواد الحاملة لها ، والرسوم : هي الصورة الخلقية .
وكأن شيخ الإسلام أراد بها هنا الأسباب ، وأن ، فنسبوها إليها ، فصاحب هذه الدرجة يشهد كيف أظهر الرب سبحانه الأشياء في موادها وصورها وأظهرها بأسبابها ، وأخفى علمه وحكمه فيما أظهره من ذلك ، فالظهور : للأسباب المشاهدة ، والحقيقة المخفية للعلم والحكم السابقين . الله سبحانه غطى حقائق الأشياء عن أبصار الخلق بما يشاهدونه من تعلق المسببات بأسبابها
قوله " وتحقق معرفة العلل " يريد : أن هذا ، وهي عبارة عن عوائق السالك : من نظره إلى السوى ، والتفاته إليه ، فهذه الدرجة من التوحيد - عنده - تحقق هذه العلل . التوحيد يحقق لصاحبه معرفة علل الأحوال والمقامات والأعمال
ويحتمل أن يريد بالعلل الأسباب التي ربطت بها الأحكام ، فصاحب هذه الدرجة يعرف حقيقتها ومرتبتها كما هي عليه ؛ لأنه قد صعد منها إلى مسببها وواضعها .
قوله : " ويسلك سبيل إسقاط الحدث " .
يريد : أنه في هذا الشهود ، وهذه الملاحظة المذكورة : سالك سبيل الذين شهدوا عين الأزل ، فنفى عنهم شهود الحدث ، وذلك بالفناء في حضرة الجمع ، فإنها هي التي يفنى فيها من لم يكن ، ويبقى فيها من لم يزل .
فإن أراد بإسقاط الحدث : أنه يعتقد نفي حدوث شيء ، فهذا مكابرة للحس والشهود ، وإن أراد إسقاط الحدث من قلبه ، فلا يشهد حادثا ومحدثا - وهذا مراده - فهذا خلاف ما أمر الله ورسوله به ، وخلاف الحق ، فإن العبد مأمور أن يشهد : أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ويشهد أن الجنة حق ، والنار حق ، والساعة [ ص: 468 ] حق ، والنبيين حق ، ويشهد حدوث المحدثات بإحداث الرب تعالى لها بمشيئته وقدرته ، وبما خلقه من الأسباب ، ولما خلقه من الحكم ، ولم يأمر العبد - بل لم يرد منه - أن لا يشهد حادثا ولا حدوث شيء ، وهذا لا كمال فيه ، ولا معرفة ، فضلا عن أن يكون غاية العارف ، وأن يكون توحيد الخاصة ، والقرآن - من أوله إلى آخره - صريح في خلافه ، فإنه أمر بشهود الحادثات والكائنات ، والنظر فيها ، والاعتبار بها ، والاستدلال بها على وحدانية الله سبحانه ، وعلى أسمائه وصفاته ، فأعرف الناس به ، وبأسمائه وصفاته أعظمهم شهودا لها ، ونظرا فيها ، واعتبارا بها ، فكيف يكون لب التوحيد وقلبه وسره : إسقاطها من الشهود .
فإن قلت : إنما يريد إسقاطها من التفات القلب إليها ، والوقوف معها .
قلت : هذا قد تقدم في أول الدرجة في قوله : " وهو إسقاط الأسباب الظاهرة " ، وقد عرفت ما فيه .
وبالجملة : فالإسقاط إما لعين الوجود ، أو لعين الشهود ، أو لعين المقصود ، فالأول : محال ، والثاني : نقص ، والثالث : حق ، لكنه ليس مراد الشيخ ، فتأمله .
وقوله : " وفني من لم يكن ، وبقي من لم يزل " ، إن أراد به فناء الوجود الخارجي فهذا مكابرة ، وإن أراد به أنه فني من الشهود ، فهذا نقص في الإيمان والتوحيد - كما تقرر - وإن أراد به أن يفنى في القصد والإرادة والمحبة ، فهذا هو الحق ، وهو الفناء عن إرادة السوى وقصده ومحبته .
قوله : هذا توحيد الخاصة ، الذي يصح بعلم الفناء ، ويصفو في علم الجمع ، ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع ، يعني : الذين ارتفعوا عن العامة ، ولم يصلوا إلى منزلة خاصة الخاصة . توحيد المتوسطين
قوله " يصح بعلم الفناء " ولم يقل : بحقيقة الفناء ؛ لأن درجة العلم في هذا السلوك قبل درجة الحال والمعرفة ، وهذه درجة متوسط لم يبلغ الغاية ، وحال الفناء لصاحب الدرجة الثالثة .
وكذلك قوله " ويصفو في علم الجمع " فإن علم الجمع قبل حال الجمع ، كما تقدم في بابه .
قوله " ويجذب إلى توحيد أرباب الجمع " يريد : أن هذا المقام يجذب أهله إلى توحيد الفريق الثاني الذين هم فوقهم ، وهم أصحاب الجمع ، وقد تقدم ذكر الجمع [ ص: 469 ] ولم يحصل به الشفاء .
ونحن الآن ذاكرون حقيقته وأقسامه ، والصحيح منه والمعلول ، والله المستعان .
الجمع في اللغة الضم ، والاجتماع الانضمام ، والتفريق : ضده ، وأما في اصطلاح القوم : فهو ، وهو ثلاثة أنواع : جمع وجود ، وهو جمع شخوص البصيرة إلى من صدرت عنه المتفرقات كلها الزنادقة من أهل الاتحاد ، وجمع شهود ، وجمع قصود ، فإذا تحررت هذه الأقسام تحرر الجمع الصحيح من الفاسد .
وكذلك ينقسم الفرق إلى صحيح وفاسد ، أعني إلى مطلوب في السلوك وقاطع عن السلوك ، فالفرق ثلاثة أنواع ، فرق طبيعي حيواني ، وفرق إسلامي ، وفرق إيماني ، هذه ستة أقسام للجمع وللفرق .
فنذكر أولا ، إذ بها تعرف أنواع الجمع . أنواع الفرق
فأما : فهو التفريق بمجرد الطبع والميل ، فيفرق بين ما يفعله وما لا يفعله بطبعه وهواه ، وهذا فرق الحيوانات وأشباهها من بني الفرق الطبيعي والحيواني آدم ، فالمعيار ميل طبعه ، ونفرة طبعه ، والمشركون والكفار وأهل الظلم والعدوان واقفون مع هذا الفرق .
وأما : فهو الفرق بين ما شرعه الله وأمر به وأحبه ورضيه ، وبين ما نهى عنه وكرهه ومقت فاعله ، وهذا الفرق من لم يكن من أهله لم يشم رائحة الإسلام البتة ، وقد حكى الله سبحانه عن أهل الفرق الطبيعي : أنهم أنكروا هذا الفرق ، فشهدوا الجمع بين المأمور والمحظور إذ قالوا الفرق الإسلامي إنما البيع مثل الربا لا فرق بينهما ، وقالوا : الميتة مثل المذكاة ، لا فرق بينهما ، وقالوا : الحلال والحرام شيء واحد ، فهذا جمعهم وذاك فرقهم ، فهذا فرق يتعلق بالأعمال .