فصل
وأما الفرق الإيماني الذي يتعلق بمسائل القضاء والقدر : فهو التمييز الإيماني بين فعل الحق سبحانه وأفعال العباد ، فيؤمن بأن ، ومع ذلك يؤمن بأن الله وحده خالق كل شيء ، وليس في الكون إلا ما هو واقع بمشيئته وقدرته وخلقه ، وهي صادرة عن قدرته ومشيئته ، قائمة به ، وهو فاعل لها على الحقيقة ، فيشهد [ ص: 470 ] تفرد الرب سبحانه بالخلق والتقدير ، ووقوع أفعال العباد منهم بقدرتهم ومشيئتهم ، والله الخالق لذلك كله . العبد فاعل لأفعاله حقيقة
وهنا انقسم أصحاب هذا الفرق ثلاثة أقسام : قسم غابوا بأفعالهم وحركاتهم عن فعل الرب تعالى وقضائه ، مع إيمانهم به ، وقسم غابوا بفعل الرب وتفرده بالحكم والمشيئة عن أفعالهم وحركاتهم ، وقسم أعطوا المراتب حقها ، فآمنوا بفعل الرب وقدرته ومشيئته وتفرده بالحكم والقضاء ، وشهدوا وقوع الأفعال من فاعليها ، واستحقاقهم عليها المدح والذم والثواب والعقاب .
فالفريق الأول : يغلب عليهم الفرق الطبيعي ، ولم يصعدوا إلى مشاهدة الحكم .
والفريق الثاني : يغلب عليهم حال الجمع وهو شهود قدر الرب تعالى ومشيئته وتدبيره لخلقه ، فتجتمع قلوبهم على شهود أفعاله ، بعد أن كانت متفرقة في رؤية أفعال الخلق ، وتغيب بفعله عن أفعالهم ، وربما غلب عليها شهود ذلك حتى أسقطت عنهم المدح والذم بالكلية ، فكلاهما منحرف في شهوده .
والفريق الثالث : يشهد الحكم والتدبير العام لكل موجود ، ويشهد أفعال العباد ووقوعها بإرادتهم ودواعيهم ، فيكون صاحب جمع وفرق ، فيجمع الأشياء في الحكم الكوني القدري ، ويفرق بينها بالحكم الكوني أيضا ، كما فرق الله بينها بالحكم الديني الشرعي ، فإن الله سبحانه فرق بينها خلقا وأمرا وقدرا وشرعا ، وكونا ، ودينا .
فالشهود الصحيح المطابق أن يشهدها كذلك ، فيكون صاحب جمع في فرق ، وفرق في جمع ، جمع بينها في الخلق والتكوين ، وشمول المشيئة لها وفرق بينها بالأمر والنهي ، والحب والبغض ، فشهدها وهي منقسمة إلى مأمور ومحظور ، ومحبوب ، ومكروه ، كما فرق خالقها بينها ، ويشهد الفرق بينها أيضا قدرا ، فإنه كما فرق بينها أمره ، فرق بينها قدره ، فقدر المحبوب محبوبا ، والمسخوط مسخوطا ، والخير على ما هو عليه ، والشر على ما هو عليه ، فافترقت في قدره كما افترقت في شرعه ، فجمعتها مشيئته وقدره ، وفرقت بينها مشيئته وقدره ، فشاء سبحانه كلا منها أن يكون على ما هو عليه ، ذاتا وقدرا وصفة ، وأن يكون محبوبا أو مسخوطا ، وأشهدها أهل البصائر من خلقه ، كما هي عليه .
فهؤلاء أصح الناس شهودا ، بخلاف من شهد المخلوق قديما ، والوجود المخلوق هو عين وجود الخالق ، والمأمور والمحظور سواء ، والمقدور كله محبوبا مرضيا له ، أو أن بعض الحادثات خارج عن مشيئته وخلقه وتكوينه ، أو أن أفعال عباده [ ص: 471 ] خارجة عن إرادتهم ومشيئتهم وقدرتهم ، وليسوا هم الفاعلين لها ، فإن هذا الشهود كله عمى ، وأصحابه قد جمعوا بين ما فرق الله بينه ، وفرقوا بين ما جمع الله بينه ، ولم يهتدوا إلى الشهود الصحيح ، الذي يميز به صاحبه بين وجود الخالق ووجود المخلوق وبين المأمور ، والمحظور ، وبين فعل الرب ، وفعل العبد ، وبين ما يحبه ويبغضه .
وصاحب هذا الشهود : لا يغيب بأفعال العباد عن فعل الرب وقضائه وقدره ، ولا يغيب بقضائه وقدره عن أمره ونهيه ومحبته لبعضها وكراهته لبعضها ، ولا يغيب بوجود الخالق عن وجود المخلوق ، ولا برؤية الخلق عن ملاحظة الخالق ، بل يضع الأمور مواضعها ، فيشهد القدر العام السابق الذي لا خروج لمخلوق عنه ، كما لا خروج له عن أن يكون مربوبا فقيرا بذاته ، ويذم العباد ويمدحهم بما حركهم به القدر من المعاصي والطاعات ، بخلاف صاحب الجمع بلا فرق ، فإنه ربما عذر أصحاب الشرك والمعاصي ، لاستيلاء شهود الجمع على قلبه ، ويقول : العارف لا ينكر منكرا ، لاستبصاره بسر الله في القدر ، فشهوده من الخلق موافقتهم لما شاء الله منهم .
فالشاهد المبصر المتمكن يشهد القيومية والقدر السابق الشامل المحيط ، ويشهد اكتساب العباد وما جرى به عليهم القدر من الطاعات والمعاصي ، ويشهد حكمة الرب تعالى وأمره ونهيه وحبه وكراهيته .