[ ص: 411 ] فصل التوحيد
قال صاحب المنازل : ( باب التوحيد ) قال الله تعالى : شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم : تنزيه الله عز وجل عن الحدث ، وإنما نطق العلماء بما نطقوا به ، وأشار المحققون بما أشاروا به في هذا الطريق : لقصد تصحيح التوحيد ، وما سواه من حال أو مقام ؛ فكله مصحوب بالعلل . التوحيد
قلت : ، وأول منازل الطريق ، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله تعالى : قال تعالى : التوحيد أول دعوة الرسل لقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال هود لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال صالح لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال شعيب لقومه : اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال تعالى : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت .
فالتوحيد : مفتاح دعوة الرسل ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرسوله - رضي الله عنه - وقد بعثه إلى معاذ بن جبل اليمن - محمدا رسول الله ، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة وذكر الحديث وقال - صلى الله عليه وسلم - : إنك تأتي قوما أهل كتاب ، فليكن أول ما تدعوهم إليه : عبادة الله وحده ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، ولهذا [ ص: 412 ] كان الصحيح : أن أول واجب يجب على المكلف : شهادة أن لا إله إلا الله ، لا النظر ، ولا القصد إلى النظر ، ولا الشك - كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم . أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأن
فالتوحيد : أول ما يدخل به في الإسلام ، وآخر ما يخرج به من الدنيا ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : ، فهو أول واجب ، وآخر واجب ، فالتوحيد : أول الأمر وآخره . من كان آخر كلامه : لا إله إلا الله ؛ دخل الجنة
قوله : " التوحيد : تنزيه الله عن الحدث " ، هذا الحد لا يدل على التوحيد الذي بعث الله به رسله ، وأنزل به كتبه ، وينجو به العبد من النار ، ويدخل به الجنة ، ويخرج من الشرك ، فإنه مشترك بين جميع الفرق ، وكل من أقر بوجود الخالق سبحانه أقر به ، فعباد الأصنام ، والمجوس ، والنصارى ، واليهود ، والمشركون - على اختلاف نحلهم - كلهم ينزهون الله عن الحدث ، ويثبتون قدمه ، حتى أعظم الطوائف على الإطلاق شركا ، وكفرا وإلحادا ، وهم طائفة الاتحادية ، فإنهم يقولون : هو الوجود المطلق ، وهو قديم لم يزل ، وهو منزه عن الحدث ، ولم تزل المحدثات تكتسي وجوده ، تلبسه وتخلعه .
والفلاسفة - الذين هم أبعد الخلق عن الشرائع وما جاءت به الأنبياء - يثبتون واجب الوجود قديما منزها عن الحدث .
والمشركون - عباد الأصنام الذين يعبدون معه آلهة أخرى - يثبتون قديما منزها عن الحدث .
فالتنزيه عن الحدث حق ، ولكن لا يعطي إسلاما ولا إيمانا ، ولا يدخل في شرائع الأنبياء ، ولا يخرج من نحل أهل الكفر ومللهم البتة ، وهذا القدر لا يخفى على شيخ الإسلام ، ومحله من العلم والمعرفة محله .
ومع هذا فقد سئل سيد الطائفة الجنيد عن التوحيد ؟ فقال : هو إفراد القديم عن المحدث ، و الجنيد أشار إلى أنه لا تصح دعوى التوحيد ، ولا مقامه ولا حاله ، ولا [ ص: 413 ] يكون العبد موحدا إلا إذا أفرد القديم عن المحدث ، فإن كثيرا ممن ادعى التوحيد لم يفرده سبحانه من المحدثات ، فإن من نفى مباينته لخلقه فوق سماواته على عرشه ، وجعله في كل مكان بذاته ، لم يفرده عن المحدث ، بل جعله حالا في المحدثات مخالفا لها ، موجودا فيها بذاته ، وصوفية هؤلاء وعبادهم هم الحلولية ، الذين يقولون : إن الله - عز وجل - يحل بذاته في المخلوقات ، وهم طائفتان : طائفة تعمم الموجودات بحلوله فيها ، وطائفة تخص به بعضها دون بعض .
قال الأشعري في كتاب المقالات : هذه حكاية قول قوم من النساك ، وفي الأمة قوم ينتحلون النسك ، يزعمون أنه جائز على الله تعالى الحلول في الأجسام ، وإذا رأوا شيئا يستحسنونه قالوا : لا ندري ! لعله ربنا .
قلت : وهذه الفرقة طائفتان ، إحداهما : تزعم أنه سبحانه يحل في الصورة الجميلة المستحسنة ، والثانية : تزعم أنه سبحانه يحل في الكمل من الناس ، وهم الذين تجردت نفوسهم عن الشهوات ، واتصفوا بالفضائل ، وتنزهوا عن الرذائل ، والنصارى تزعم أنه حل في بدن المسيح وتدرع به ، والاتحادية تزعم أنه وجود مطلق اكتسته الماهيات ، فهو عين وجودها .
فكل هؤلاء لم يفردوا القديم عن المحدث .