قال شيخ الإسلام : " ( ) أطلق الله سبحانه في القرآن اسم الوجود على نفسه صريحا في مواضع ، فقال تعالى باب الوجود يجد الله غفورا رحيما لوجدوا الله توابا رحيما [ ص: 379 ] ووجد الله عنده الوجود : الظفر بحقيقة الشيء ، وهو اسم لثلاثة معان ، أولها : وجود علم لدني ، يقطع علوم الشواهد في صحة مكاشفة الحق إياك ، والثاني : وجود الحق وجود عين منقطعا عن مساغ الإشارة ، والثالث : وجود مقام اضمحلال رسم الوجود فيه بالاستغراق في الأولية .
هذا الباب هو العلم الذي شمر إليه القوم ، والغاية التي قصدوها ، ولا ريب أنهم قصدوا معنى صحيحا ، وعبروا عنه بالوجود ، واستدلوا عليه بهذه الآيات ونظيرها ، ولكن ليس مقصودهم ما تضمنه الوجدان في هذه الآيات ، فإنه وجدان المطلوب تعلق باسم أو صفة ، قال الله تعالى ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فهذا وجود مقيد بظفرهم بمغفرة الله ورحمته لهم ، وكذلك قوله تعالى ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما ومعناه : أنه يجد ما ظنه من مغفرة الله له حاصلة ، وكذلك ووجد الله عنده فوفاه حسابه فهذا وجدان الكافر لربه عند حسابه له على أعماله ، وليس هذا هو الوجود الذي يشير القوم إليه ، بل منه الأثر المعروف ابن آدم ، اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ،ومنه الحديث ومنه الأثر الإسرائيلي : أن أنا عند ظن عبدي بي ، موسى قال : يا رب أين أجدك ؟ قال : عند المنكسرة قلوبهم من أجلي ، ومنه الحديث الصحيح . إن الله تعالى يقول يوم القيامة : عبدي ، استطعمتك فلم تطعمني ، قال : يا رب كيف أطعمك ، وأنت رب العالمين ؟ قال : استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه ، أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي ، عبدي استسقيتك فلم تسقني ، قال : يا رب كيف أسقيك ، وأنت رب العالمين ؟ قال : استسقاك عبدي فلان فلم تسقه أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي ، عبدي مرضت فلم تعدني ، قال : يا رب ، كيف أعودك وأنت [ ص: 380 ] رب العالمين ؟ قال : مرض عبدي فلان فلم تعده ، أما لو عدته لوجدتني عنده
فتأمل قوله في الإطعام والإسقاء وقوله في العيادة لوجدت ذلك عندي ولم يقل : لوجدت ذلك عندي ، إيذانا بقربه من المريض ، وأنه عنده ، لذله وخضوعه ، وانكسار قلبه ، وافتقاره إلى ربه ، فأوجب ذلك وجود الله عنده ، هذا ، وهو فوق سماواته مستو على عرشه بائن من خلقه ، وهو عند عبده ، فوجود العبد عند ربه ظفره بالوصول إليه . لوجدتني عنده
. والناس ثلاثة : سالك ، وواصل ، وواجد
فإن قلت : اضرب لي مثلا ، أفهم به معنى الوصول في هذا الباب والوجود .
قلت : إذا بلغك أن بمكان كذا وكذا كنزا عظيما ، من ظفر به ، أو بشيء منه ، استغنى غنى الدهر ، وترحل عنه العدم والفقر ، فتحركت نفسه للسير إليه ، فأخذ في التأهب للمسير ، فلما جد به السير انتهى إلى الكنز ووصل إليه ، ولكن لم يظفر بتحويله إلى داره ، وحصوله عنده بعد ، فهو واصل غير واجد ، والذي في الطريق سالك ، والقاعد عن الطلب منقطع ، وآخذ الكنز - بحيث حصل عنده ، وصار في داره - واجد ، فهذا المعنى حوله حام القوم ، وعليه دارت إشاراتهم فعندهم التواجد بداية ، والواجد واسطة ، والوجود نهاية .
ومعنى ذلك : أنه في الابتداء يتكلف التواجد ، فيقوى عليه حتى يصير واجدا ، ثم يستغرق في وجده حتى يصل إلى موجوده .
ويستشكل قول أبي الحسن النوري : أنا منذ عشرين سنة بين الوجد والفقد إذا وجدت ربي فقدت قلبي ، وإذا وجدت قلبي فقدت ربي ، ومعنى هذا : أن الوجود الصحيح يغيب الواجد عنه ، ويجرده منه ، فيفنى بموجوده عن وجوده ، وبمشهوده عن شهوده ، فإذا وجد الحقيقة غاب عن قلبه وعن صفاته ، وإذا غابت عنه الحقيقة بقي مع صفاته ، وفي هذا المعنى قيل :
وجودي أن أغيب عن الوجود بما يبدو علي من الشهود [ ص: 381 ] وما في الوجد موجود ولكن
فخرت بوجد موجود الوجود
والوجد ما يرد على الناظر من الله تعالى يكسبه فرحا أو حزنا ، وهي فرحة يجدها المغلوب عليه بصفات شريفة ينظر إلى الله منها ، والتواجد استجلاب الوجد بالتذكر والتفكر ، لاتساع فرجة الوجد بالخروج إلى فضاء الوجدان ، فلا وجد عندهم مع الوجدان ، كما لا خبر مع العيان ، والوجد عرضة للزوال ، والوجود ثابت ثبوت الجبال ، وقد قيل :
قد كان يطربني وجدي فأقعدني عن رؤية الوجد من بالوجد موجود
والوجد يطرب من في الوجد راحته والوجد عند حضور الحق مقصود
وقد اختلف الناس في على قولين ، فقالت طائفة : لا يسلم لصاحبه ، لما فيه من التكلف وإظهار ما ليس عنده ، وقوم قالوا : يسلم للصادق الذي يرصد لوجدان المعاني الصحيحة ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - التواجد : هل يسلم لصاحبه ؟ . ابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا
والتحقيق : أن صاحب التواجد إن تكلفه لحظ وشهوة نفس : لم يسلم له ، وإن [ ص: 382 ] تكلفه لاستجلاب حال ، أو مقام مع الله : سلم له ، وهذا يعرف من حال المتواجد ، وشواهد صدقه وإخلاصه .