فصل
قد عرفت أن هذا الباب مبناه على ، ولهذا سمى المصنف نصبها " تلبيسا " . محو الأسباب ، وعدم الالتفات إليها والوقوف معها
[ ص: 377 ] ونحن نقول : إن الدين هو إثبات الأسباب ، والوقوف معها ، والنظر إليها ، والالتفات إليها ، وإنه لا دين إلا بذلك ، كما لا حقيقة إلا به ، فالحقيقة والشريعة : مبناهما على إثباتها ، لا على محوها ، ولا ننكر الوقوف معها ، فإن الوقوف معها فرض على كل مسلم ، لا يتم إسلامه وإيمانه إلا بذلك ، والله تعالى أمرنا بالوقوف معها ، بمعنى أنا نثبت الحكم إذا وجدت ، وننفيه إذا عدمت ، ونستدل بها على حكمه الكوني ، فوقوفنا معها - بهذا الاعتبار - هو مقتضى الحقيقة والشريعة ، وهل يمكن حيوانا أن يعيش في هذه الدنيا إلا بوقوفه مع الأسباب ؟ فينتجع مساقط غيثها ومواقع قطرها ، ويرعى في خصبها دون جدبها ، ويسالمها ولا يحار بها ، فكيف وتنفسه في الهواء بها ، وتحركه بها ، وسمعه وبصره بها ، وغذاؤه بها ، ودواؤه بها ، وهداه بها ، وسعادته وفلاحه بها ؟ وضلاله وشقاؤه بالإعراض عنها وإلغائها ، فأسعد الناس في الدارين : أقومهم بالأسباب الموصلة إلى مصالحهما ، وأشقاهم في الدارين : أشدهم تعطيلا لأسبابهما ، فالأسباب محل الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، والنجاح والخسران .
وبالأسباب عرف الله ، وبها عبد الله ، وبها أطيع الله ، وبها تقرب إليه المتقربون ، وبها نال أولياؤه رضاه وجواره في جنته ، وبها نصر حزبه ودينه ، وأقاموا دعوته ، وبها أرسل رسله وشرع شرائعه ، وبها انقسم الناس إلى سعيد وشقي ، ومهتد وغوي ، فالوقوف معها والالتفات إليها والنظر إليها : هو الواجب شرعا ، كما هو الواقع قدرا ، ولا تكن ممن غلظ حجابه ، وكثف طبعه فيقول : لا نقف معها وقوف من يعتقد أنها مستقلة بالإحداث والتأثير ، وأنها أرباب من دون الله ، فإن وجدت أحدا يزعم ذلك ، ويظن أنها أرباب ، وآلهة مع الله مستقلة بالإيجاد ، أو أنها عون لله يحتاج في فعله إليها ، أو أنها شركاء له : فشأنك به ، فمزق أديمه ، وتقرب إلى الله بعداوته ما استطعت ، وإلا فما هذا النفي لما أثبته الله ؟ والإلغاء لما اعتبره ؟ والإهدار لما حققه ؟ والحط والوضع لما نصبه ؟ والمحو لما كتبه ؟ والعزل لما ولاه ؟ فإن زعمت أنك تعزلها عن رتبة الإلهية فسبحان الله من ولاها هذه الرتبة حتى تجعل سعيك في عزلها عنها ؟
ويالله ما أجهل كثيرا من أهل الكلام والتصوف ، حيث لم يكن عندهم تحقيق التوحيد إلا بإلغائها ومحوها ، وإهدارها بالكلية ، وأنه لم يجعل الله في المخلوقات قوى ولا طبائع ، ولا غرائز لها تأثير موجبة ما ، ولا في النار حرارة ولا إحراقا ، ولا في الدواء قوة مذهبة للداء ، ولا في الخبز قوة مشبعة ، ولا في الماء قوة مروية ، ولا في العين قوة باصرة ، ولا في الأنف قوة شامة ، ولا في السم قوة قاتلة ، ولا في الحديد قوة قاطعة ؟ [ ص: 378 ] وأن الله لم يفعل شيئا بشيء ، ولا فعل شيئا لأجل شيء .
فهذا غاية توحيدهم الذي يحومون حوله ، ويبالغون في تقريره .
فلعمر الله لقد أضحكوا عليهم العقلاء ، وأشمتوا بهم الأعداء ، ونهجوا لأعداء الرسل طريق إساءة الظن بهم ، وجنوا على الإسلام والقرآن أعظم جناية ، وقالوا : نحن أنصار الله ورسوله ، الموكلون بكسر أعداء الإسلام وأعداء الرسل ، ولعمر الله لقد كسروا الدين وسلطوا عليه المبطلين ، وقد قيل : إياك ومصاحبة الجاهل ، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك .
فقف مع الأسباب حيث أمرت بالوقوف معها ، وفارقها حيث أمرت بمفارقتها ، كما فارقها الخليل وهو في تلك السفرة من المنجنيق ، حيث عرض له جبريل أقوى الأسباب ، فقال : ألك حاجة ؟ فقال : أما إليك فلا .
ودر معها حيث دارت ، ناظرا إلى من أزمتها بيديه ، والتفت إليها التفات العبد المأمور إلى تنفيذ ما أمر به ، والتحديق نحوه ، وارعها حق رعايتها ، ولا تغب عنها ولا تفن عنها ، بل انظر إليها وهي في رتبتها التي أنزل الله إياها ، واعلم أن غيبتك بمسببها عنها نقص في عبوديتك ، بل الكمال : أن تشهد المعبود ، وتشهد قيامك بعبوديته ، وتشهد أن قيامك به لا بك ، ومنه لا منك ، وبحوله وقوته لا بحولك وقوتك ، ومتى خرجت عن ذلك وقعت في انحرافين ، لابد لك من أحدهما : إما أن تغيب بها عن المقصود لذاته ، لضعف نظرك وغفلتك ، وقصور علمك ومعرفتك ، وإما أن تغيب بالمقصود عنها ، بحيث لا تلتفت إليها .
والكمال : أن يسلمك الله من الانحرافين ، فتبقى عبدا ملاحظا للعبودية ، ناظرا إلى المعبود ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .