فصل
قال : كشف حجاب العلم ، وفك رق التكليف . ونفى صغار الاختيار . الدرجة الثانية : سرور شهود .
يريد : أن العلم حجاب على المعرفة . فشهود كشف ذلك الحجاب ، حتى [ ص: 157 ] يفضي القلب إلى المعرفة : يوجب سرورا .
و " العلم " عند هذه الطائفة : استدلال . والمعرفة ضرورية . فالعلم : له الخبر . والمعرفة : لها العيان ، فالعلم عندهم حجاب على المعرفة ، وإن كان لا يوصل إليها إلا بالعلم . والعلم لها كالصوان لما تحته ، فهو حجاب عليه . ولا يوصل إليه إلا منه .
ومثال هذا : أنك إذا رأيت في حومة ثلج ثقبا خاليا : استدللت به على أن تحته حيوانا يتنفس ، فهذا علم . فإذا حفرته ، وشاهدت الحيوان . فهذه معرفة .
قوله " وفك رق التكليف " عبارة قلقة ، غير سديدة . و " رق التكليف " لا يفك إلى الممات . وكلما تقدم العبد منزلا شاهد من رق تكليفه ما لم يكن شاهده من قبل ، فرق التكليف : أمر لازم للمكلف ما بقي في هذا العالم .
والذي يتوجه عليه كلامه : أن السرور بالذوق - الذي أشار إليه - يعتق العبد من رق التكليف ، بحيث لا يعده تكليفا . بل تبقى الطاعات غذاء لقلبه ، وسرورا له ، وقرة عين في حقه ، ونعيما لروحه . يتلذذ بها ، ويتنعم بملابستها أعظم مما يتنعم بملابسة الطعام والشراب واللذات الجسمانية . فإن اللذات الروحانية القلبية أقوى وأتم من اللذات الجسمانية . فلا يجد في أوراد العبادة كلفة . ولا تصير تكليفا في حقه . فإن ما يفعله المحب الصادق ، ويأتي به في خدمة محبوبه : هو أسر شيء إليه . وألذه عنده . ولا يرى ذلك تكليفا ، لما في التكليف : من إلزام المكلف بما فيه كلفة ومشقة عليه . والله سبحانه إنما سمى أوامره ونواهيه : وصية ، وعهدا ، وموعظة ، ورحمة ولم يطلق عليها اسم التكليف إلا في جانب النفي كقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . ووقوع الوسع بعد الاستثناء من التكليف لا يوجب وقوع الاسم عليه مطلقا . فهذا أقرب ما يؤول به كلامه .
على أن للملحد هاهنا مجالا . وهو أن هذه الحال : إنما هي لأقوام انتقلت عباداتهم من ظواهرهم إلى بواطنهم . فانتقل حكم أورادهم إلى وارداتهم . فاستغنوا بالواردات عن الأوراد ، وبالحقائق عن الرسوم ، وبالمعاني عن الصور . فخلصوا من رق التكليف المختص بالعلم ، وقاموا بالحقيقة التي يقتضيها الحكم . وهكذا الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل .
قوله : " ونفى صغار الاختيار " يريد به : أن العبد متى كان مربوطا باختياراته ، [ ص: 158 ] محبوسا في سجن إراداته ، فهو في ذل وصغار ، فإذا وصل إلى هذه الدرجة : انتفى عنه صغار الاختيار . وبقي من جملة الأحرار .
فيا لها من عبودية أوجبت حرية ، وحرية كملت عبودية .
فيصير واقفا مع ما يختار الله له ، لا مع ما يختاره هو لنفسه . بل يصير مع الله بمنزلة من لا اختيار له ألبتة . فمن كان محجوبا بالعلم عن المعرفة : نازعته اختياراته ، ونازعها ، فهو معها في ذل وصغار . ومتى أفضى إلى المعرفة ، وكشف له عن حجابها : شاهد البلاء نعيما ، والمنع عطاء ، والذل عزا ، والفقر غنى . فانقاد باطنه لأحكام المعرفة ، وظاهره لأحكام العلم .
على أن للملحد هاهنا مجالا ، قد جال فيه هو وطائفته . فقال : هذا يوجب الانقياد لأحكام المعرفة ، والتخلص والراحة من أحكام العلم . وقد قيل : إن العالم يسعطك الخل والخردل . والعارف ينشقك المسك والعنبر .
قال : ومعنى هذا : أنك مع العالم في تعب . ومع العارف في راحة . لأن العارف يبسط عذر العوالم والخلائق . والعالم يلوم . وقد قيل : من نظر إلى الناس بعين العلم مقتهم . ومن نظر إليهم بعين الحقيقة عذرهم .
فانظر ما تضمنه هذا الكلام الذي ملمسه ناعم . وسمه زعاف قاتل ، من الانحلال عن الدين ودعوى الراحة من حكم العبودية والتماس الأعذار لليهود والنصارى ، وعباد الأوثان والظلمة والفجرة ، وأن أحكام الأمر والنهي - الواردين على ألسن الرسل - للقلوب بمنزلة سعط الخل والخردل ، وأن شهود الحقيقة الكونية الشاملة للخلائق ، والوقوف معها ، والانقياد لحكمها : بمنزلة تنشيق المسك والعنبر .
فليهن الكفار والفجار والفساق : انتشاق هذا المسك والعنبر ، إذا شهدوا هذه الحقيقة وانقادوا لحكمها .
ويا رحمة للأبرار المحكمين لما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كثرة سعوطهم بالخل والخردل .
فإن قوله صلى الله عليه وسلم : هذا يجوز وهذا لا يجوز . وهذا حلال ، وهذا حرام . وهذا يرضي الله وهذا يسخطه : خل وخردل ، عند هؤلاء الملاحدة . وإلا فالحقيقة تشهدك الأمر بخلاف ذلك . ولذلك إذا نظرت - عندهم - إلى الخلق بعين الحقيقة : عذرت الجميع . فتعذر من توعده الله ورسوله أعظم الوعيد . وتهدده أعظم التهديد .
[ ص: 159 ] ويا لله العجب ! إذا كانوا معذورين في الحقيقة ، فكيف يعذب الله سبحانه المعذور . ويذيقه أشد العذاب ؟ وهلا كان الغني الرحيم أولى بعذره من هؤلاء ؟
نعم . العالم الناصح يلوم بأمر الله . والعارف الصادق يرحم بقدر الله . ولا يتنافى عنده اللوم والرحمة . ومن رحمته : عقوبة من أمر الله بعقوبته . فذلك رحمة له وللأمة . وترك عقوبته زيادة في أذاه وأذى غيره . وأنت مع العالم في تعب يعقب كل الراحة ، ومع عارف هؤلاء الملاحدة : في راحة وهمية : تعقب كل تعب وخيبة وألم ، كما ذكر في كتاب الزهد : أن المسيح عليه السلام كان يقول : على قدر ما تتعبون هاهنا تستريحون هنالك . وعلى قدر ما تستريحون هاهنا تتعبون هنالك . الإمام أحمد
فالعلم يحذرك ، ويمنعك الوقوف حتى تبلغ المأمن . وعارف الملاحدة يوهمك الراحة من كد المسير ومؤنة السفر ، حتى تؤخذ في الطريق .