ذكر الشيخ له في هذه الدرجة ثلاث فوائد .
الفائدة الأولى : علم يهذب لسلوك الطريق ، وهذا العلم الصافي - الذي أشار إليه - هو العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان الجنيد يقول دائما : علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة . فمن لم يحفظ القرآن ، ويكتب الحديث ، ولم يتفقه : لا يقتدى به .
وقال غيره من العارفين : كل حقيقة لا تتبعها شريعة فهي كفر .
[ ص: 137 ] وقال الجنيد : علمنا هذا متشبك بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وقال : إنه لتمر بقلبي النكتة من نكت القوم . فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل ، من الكتاب والسنة . وقال أبو سليمان الداراني النصرابادي : أصل هذا المذهب : ملازمة الكتاب والسنة . وترك الأهواء والبدع ، والاقتداء بالسلف ، وترك ما أحدثه الآخرون . والإقامة على ما سلكه الأولون .
وقد تقدم ذكر بعض ذلك .
فهذا العلم الصافي ، المتلقى من مشكاة الوحي والنبوة : يهذب صاحبه لسلوك طريق العبودية . وحقيقتها : التأدب بآداب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطنا وظاهرا . وتحكيمه باطنا وظاهرا . والوقوف معه حيث وقف بك . والمسير معه حيث سار بك . بحيث تجعله بمنزلة شيخك الذي قد ألقيت إليه أمرك كله سره وظاهره ، واقتديت به في جميع أحوالك . ووقفت مع ما يأمرك به . فلا تخالفه ألبتة . فتجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لك شيخا ، وإماما وقدوة وحاكما ، وتعلق قلبك بقلبه الكريم ، وروحانيتك بروحانيته ، كما يعلق المريد روحانيته بروحانية شيخه . فتجيبه إذا دعاك . وتقف معه إذا استوقفك . وتسير إذا سار بك . وتقيل إذا قال ، وتنزل إذا نزل . وتغضب لغضبه . وترضى لرضاه . وإذا أخبرك عن شيء أنزلته منزلة ما تراه بعينك . وإذا أخبرك عن الله بخبر أنزلته منزلة ما تسمعه من الله بأذنك .
وبالجملة : فتجعل الرسول شيخك وأستاذك ، ومعلمك ومربيك ومؤدبك . وتسقط الوسائط بينك وبينه إلا في التبليغ . كما تسقط الوسائل بينك وبين المرسل في العبودية . ولا تثبت وساطة إلا في وصول أمره ونهيه ورسالته إليك .
وهذان التجريدان : هما حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله . والله وحده هو المعبود المألوه ، الذي لا يستحق العبادة سواه ، ورسوله : المطاع المتبع ، المهتدى به ، الذي لا يستحق الطاعة سواه . ومن سواه : فإنما يطاع إذا أمر الرسول بطاعته . فيطاع تبعا للأصل .
وبالجملة : واقتدى به في ظاهره وباطنه . فالطريق مسدودة إلا على من اقتفى آثار الرسول صلى الله عليه وسلم ،
فلا يتعنى السالك على غير هذا الطريق . فليس حظه من سلوكه إلا التعب ، وأعماله كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب .
[ ص: 138 ] ولا يتعنى السالك على هذا الطريق . فإنه واصل ولو زحف زحفا . فأتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - : إذا قعدت بهم أعمالهم ، قامت بهم عزائمهم وهممهم ومتابعتهم لنبيهم . كما قيل :
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدا وتجي في الأول
والمنحرفون عن طريقه ، إذا قامت بهم أعمالهم واجتهاداتهم : قعد بهم عدولهم عن طريقه .فهم في السرى لم يبرحوا من مكانهم وما ظعنوا في السير عنه وقد كلوا
يريد : أن . فإن كثيرا من السالكين - بل أكثرهم - سالك بجده واجتهاده ، غير منتبه إلى المقصود . صفاء العلم يهدي صاحبه إلى الغاية المقصودة بالاجتهاد والتشمير
وأضرب لك في هذا مثلا حسنا جدا ، وهو : أن قوما قدموا من بلاد بعيدة عليهم أثر النعيم والبهجة ، والملابس السنية ، والهيئة العجيبة . فعجب الناس لهم . فسألوهم عن حالهم ؟ فقالوا : بلادنا من أحسن البلاد . وأجمعها لسائر أنواع النعيم . وأرخاها ، وأكثرها مياها ، وأصحها هواء ، وأكثرها فاكهة ، وأعظمها اعتدالا ، وأهلها كذلك أحسن الناس صورا وأبشارا . ومع هذا ، فملكها لا يناله الوصف جمالا وكمالا ، وإحسانا ، وعلما وحلما ، وجودا ، ورحمة للرعية ، وقربا منهم . وله الهيبة والسطوة على سائر ملوك الأطراف . فلا يطمع أحد منهم في مقاومته ومحاربته . فأهل بلده في أمان من عدوهم . لا يحل الخوف بساحتهم . ومع هذا : فله أوقات يبرز فيها لرعيته ، ويسهل لهم الدخول عليه ، ويرفع الحجاب بينه وبينهم . فإذا وقعت أبصارهم عليه : تلاشى عندهم كل ما هم فيه من النعيم واضمحل ، حتى لا يلتفتون إلى شيء منه . فإذا أقبل على واحد منهم : أقبل عليه سائر أهل المملكة بالتعظيم والإجلال . ونحن رسله إلى أهل البلاد ، ندعوهم إلى حضرته . وهذه كتبه إلى الناس . ومعنا من الشهود ما يزيل سوء الظن بنا . ويدفع اتهامنا بالكذب عليه .
فلما سمع الناس ذلك ، وشاهدوا أحوال الرسل : انقسموا أقساما .
فطائفة قالت : لا نفارق أوطاننا ، ولا نخرج من ديارنا ، ولا نتجشم مشقة السفر [ ص: 139 ] البعيد ، ونترك ما ألفناه من عيشنا ومنازلنا ، ومفارقة آبائنا وأبنائنا ، وإخواننا لأمر وعدنا به في غير هذه البلاد ، ونحن لا نقدر على تحصيل ما نحن فيه إلا بعد الجهد والمشقة . فكيف ننتقل عنه ؟
ورأت هذه الفرقة مفارقتها لأوطانها وبلادها : كمفارقة أنفسها لأبدانها . فإن النفس - لشدة إلفها للبدن - أكره ما إليها مفارقته . ولو فارقته إلى النعيم المقيم .
فهذه الطائفة غلب عليها داعي الحس والطبع على داعي العقل والرشد .
والطائفة الثانية : لما رأت حال الرسل ، وما هم فيه من البهجةوحسن الحال ، وعلموا صدقهم : تأهبوا للسير إلى بلاد الملك . فأخذوا في المسير . فعارضهم أهلوهم ، وأصحابهم ، وعشائرهم من القاعدين . وعارضهم إلفهم مساكنهم ودورهم وبساتينهم . فجعلوا يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى . فإذا تذكروا طيب بلاد الملك وما فيها من سلوة العيش : تقدموا نحوها . وإذا عارضهم ما ألفوه واعتادوه من ظلال بلادهم وعيشها ، وصحبة أهلهم وأصحابهم : تأخروا عن المسير ، والتفتوا إليهم . فهم دائما بين الداعيين والجاذبين ، إلى أن يغلب أحدهما ويقوى على الآخر . فيصيرون إليه .
والطائفة الثالثة : ركبت ظهور عزائمها ، ورأت أن بلاد الملك أولى بها . فوطنت أنفسها على قصدها . ولم يثنها لوم اللوام . لكن في سيرها بطء بحسب ضعف ما كشف لها من أحوال تلك البلاد وحال الملك .
والطائفة الرابعة : جدت في السير وواصلته . فسارت سيرا حثيثا . فهم كما قيل :
وركب سروا والليل مرخ سدوله على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها فصار سراهم في ظهور العزائم
تريهم نجوم الليل ما يطلبونه على عاتق الشعرى وهام النعائم
والطائفة الخامسة : أخذوا في الجد في المسير . وهمتهم متعلقة بالغاية ، فهم في سيرهم ناظرون إلى المقصود بالمسير . فكأنهم يشاهدونه من بعد ، وهو يدعوهم إلى نفسه وإلى بلاده . فهم عاملون على هذا الشاهد الذي قام بقلوبهم .
وعمل كل أحد منهم على قدر شاهده . فمن شاهد المقصود بالعمل في علمه [ ص: 140 ] كان نصحه فيه ، وإخلاصه وتحسينه ، وبذل الجهد فيه أتم ممن لم يشاهده ولم يلاحظه . ولم يجد من مس التعب والنصب ما يجده الغائب ، والوجود شاهد بذلك . فمن عمل عملا لملك بحضرته ، وهو يشاهده : ليس حاله كحال من عمل في غيبته وبعده عنه ، وهو غير متيقن وصوله إليه .
وقوله " ويصحح همة القاصد " أي ويصحح له صفاء هذا العلم همته ، ومتى صحت الهمة علت وارتفعت . فإن سقوطها ودناءتها من علتها وسقمها ، وإلا فهي كالنار تطلب الصعود والارتفاع ما لم تمنع .
وأعلى الهمم : همة اتصلت بالحق سبحانه طلبا وقصدا . وأوصلت الخلق إليه دعوة ونصحا . وهذه همة الرسل وأتباعهم . وصحتها : بتمييزها من انقسام طلبها وانقسام مطلوبها وانقسام طريقها . بل توحد مطلوبها بالإخلاص ، وطلبها بالصدق ، وطريقها بالسلوك خلف الدليل الذي نصبه الله دليلا . لا من نصبه هو دليلا لنفسه .
ولله الهمم ! ما أعجب شأنها ، وأشد تفاوتها . فهمة متعلقة بمن فوق العرش . وهمة حائمة حول الأنتان والحش . والعامة تقول : قيمة كل امرئ ما يحسنه . والخاصة تقول : قيمة المرء ما يطلبه . وخاصة الخاصة تقول : همة المرء إلى مطلوبه .
وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم ، فانظر إلى همة ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه - - وقد قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلني - فقال : أسألك مرافقتك في الجنة . وكان غيره يسأله ما يملأ بطنه ، أو يواري جلده .
وانظر إلى همة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - حين عرضت عليه مفاتيح كنوز الأرض - فأباها . ومعلوم أنه لو أخذها لأنفقها في طاعة ربه تعالى . فأبت له تلك الهمة العالية : أن يتعلق منها بشيء مما سوى الله ومحابه . وعرض عليه أن يتصرف بالملك ، فأباه . واختار التصرف بالعبودية المحضة . فلا إله إلا الله ، خالق هذه الهمة ، وخالق نفس تحملها ، وخالق همم لا تعدو همم أخس الحيوانات .