فصل قوله : وتخلص من رعونة المعارضات .
يريد : أن هذه الذي لم يأمر بمعارضته . فيستسلم للحكمين . فإن ملاحظة عين الجمع تشهده : أن الحكمين صدرا عن عزيز حكيم . فلا يعارض حكمه برأي ولا عقل ولا ذوق ولا خاطر . الملاحظة تخلص العبد من رعونة معارضة حكم الله الديني والكوني ،
وأيضا فتخلص قلبه من معارضات السوى للأمر . فإن الأمر يعارض بالشهوة . والخبر يعارض بالشك والشبهة . فملاحظة عين الجمع : تخلص قلبه من هاتين [ ص: 119 ] المعارضتين . وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من لقي الله به . هذا تفسير أهل الحق والاستقامة .
وأما أهل الإلحاد ، فقالوا : المراد بالمعارضات هاهنا : الإنكار على الخلق فيما يبدو منهم من أحكام البشرية . لأن المشاهد لعين الجمع يعلم : أن مراد الله من الخلق ما هم عليه . فإذا علم ذلك بحقيقة الشهود : كانت المعارضات والإنكار عليهم من رعونات الأنفس المحجوبة .
وقال قدوتهم في ذلك : العارف لا ينكر منكرا ، لاستبصاره بسر الله في القدر .
وهذا عين الاتحاد والإلحاد والانسلاخ من الدين بالكلية . وقد أعاذ الله شيخ الإسلام من ذلك . وإذا كان الملحد يحمل كلام الله ورسوله ما لا يحتمله . فما الظن بكلام مخلوق مثله ؟
فيقال : إنما بعث الله رسله ، وأنزل كتبه بالإنكار على الخلق بما هم عليه من أحكام البشرية وغيرها . فبهذا أرسلت الرسل ، وأنزلت الكتب ، وانقسمت الدار إلى دار سعادة للمنكرين ، ودار شقاوة للمنكر عليهم . فالطعن في ذلك : طعن في الرسل والكتب . والتخلص من ذلك : انحلال من ربقة الدين .
ومن تأمل أحوال الرسل مع أممهم : وجدهم كانوا قائمين بالإنكار عليهم أشد القيام . حتى لقوا الله تعالى ، وأوصوا من آمن بهم بالإنكار على من خالفهم وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - : أن المتخلص من مقامات الإنكار الثلاثة ليس معه من الإيمان حبة خردل .
وبالغ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أشد المبالغة ، حتى قال . إن الناس إذا تركوه : أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده
وأخبر أن تركه : يوقع المخالفة بين القلوب والوجوه . ويحل لعنة الله . كما لعن [ ص: 120 ] الله بني إسرائيل على تركه .
فكيف يكون الإنكار من رعونات النفوس ، وهو مقصود الشريعة ؟
وهل الجهاد إلا على أنواع الإنكار . وهو جهاد باليد ، وجهاد أهل العلم : إنكار باللسان .
وأما قوله : إن المشاهد : أن مراد الله من الخلائق : ما هم عليه .
فيقال له : . فهب أن مراده الكوني منهم ما هم عليه . فمراده الديني الأمري الشرعي : هو الإنكار على أصحاب المراد الكوني . فإذا عطلت مراده الديني : لم تكن واقفا مع مراده الديني ، الذي يحبه ويرضاه . ولا ينفعك وقوفك مع مراده الكوني الذي قدره وقضاه . إذ لو نفعك ذلك لم يكن للشرائع معنى ألبتة . ولا للحدود والزواجر ، ولا للعقوبات الدنيوية ، ولا للأخذ على أيدي الظلمة والفجار ، وكف عدوانهم وفجورهم . فإن العارف عندك : يشهد أن مراد الله منهم : هو ذلك . وفي هذا فساد الدنيا قبل الأديان . الرب تعالى له مرادان : كوني ، وديني
فهذا المذهب الخبيث لا يصلح عليه دنيا ولا دين ، ولكنه رعونة نفس قد أخلدت إلى الإلحاد ، وكفرت بدين رب العباد . واتخذت تعطيل الشرائع دينا ومقاما ، ووساوس الشيطان مسامرة وإلهاما . وجعلت أقدار الرب تعالى مبطلة لما بعث به رسله . ومعطلة لما أنزل به كتبه . وجعلوا هذا الإلحاد غاية المعارف الإلهية ، وأشرف المقامات العلية . ودعوا إلى ذلك النفوس المبطلة الجاهلة بالله ودينه . فلبوا دعوتهم مسرعين ، واستخف الداعي منهم قومه فأطاعوه . إنهم كانوا قوما فاسقين .
وأما قوله : إن الإنكار : من معارضات النفوس المحجوبة .
فلعمر الله : إنهم لفي حجاب منيع من هذا الكفر والإلحاد . ولكنهم يشرفون على أهله وهم في ضلالتهم يعمهون ، وفي كفرهم يترددون ، ولأتباع الرسل يحاربون ، وإلى خلاف طريقهم يدعون . وبغير هداهم يهتدون . وعن صراطهم المستقيم ناكبون . ولما جاءا به يعارضون يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين .