. ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين : منزلة الفرار
قال الله تعالى ففروا إلى الله : الهرب من شيء إلى شيء ، وهو نوعان : فرار السعداء ، وفرار الأشقياء . وحقيقة الفرار
[ ص: 467 ] ففرار السعداء : الفرار إلى الله عز وجل ، وفرار الأشقياء : الفرار منه لا إليه .
وأما الفرار منه إليه ففرار أوليائه ، قال في قوله تعالى ابن عباس ففروا إلى الله : فروا منه إليه ، واعملوا بطاعته ، وقال : فروا مما سوى الله إلى الله ، وقال آخرون : اهربوا من عذاب الله إلى ثوابه بالإيمان والطاعة . سهل بن عبد الله
وقال صاحب المنازل : هو الهرب مما لم يكن إلى من لم يزل ، وهو على ثلاث درجات : فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا ، ومن الكسل إلى التشمير جدا وعزما ، ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء .
يريد ب " ما لم يكن " الخلق ، وب " ما لم يزل " الحق .
وقوله : فرار العامة من الجهل إلى العلم عقدا وسعيا .
: عدم العلم بالحق النافع ، وعدم العمل بموجبه ومقتضاه ، فكلاهما جهل لغة وعرفا وشرعا وحقيقة ، قال الجهل نوعان موسى أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لما قال له قومه أتتخذنا هزوا أي من المستهزئين ، وقال يوسف الصديق وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين أي من مرتكبي ما حرمت عليهم ، وقال تعالى إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة قال قتادة : أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كل ما عصي الله به فهو جهالة ، وقال غيره : أجمع الصحابة أن كل من عصى الله فهو جاهل ، وقال الشاعر :
ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
وسمي عدم مراعاة العلم جهلا ، إما لأنه لم ينتفع به ، فنزل منزلة الجهل ، وإما لجهله بسوء ما تجني عواقب فعله .فالفرار المذكور هو الفرار من الجهلين : من الجهل بالعلم إلى تحصيله ، اعتقادا ومعرفة وبصيرة ، ومن جهل العمل إلى السعي النافع ، والعمل الصالح قصدا وسعيا .
[ ص: 468 ] قوله : ومن الكسل إلى التشمير جدا وعزما .
أي يفر من إجابة داعي الكسل إلى داعي العمل والتشمير بالجد والاجتهاد .
والجد هاهنا هو صدق العمل ، وإخلاصه من شوائب الفتور ، ووعود التسويف والتهاون ، وهو تحت السين وسوف ، وعسى ، ولعل ، فهي أضر شيء على العبد ، وهي شجرة ثمرها الخسران والندامات .
والفرق بين الجد والعزم أن وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقي أوامره بالعزم والجد ، فقال العزم صدق الإرادة واستجماعها ، والجد صدق العمل وبذل الجهد فيه ، خذوا ما آتيناكم بقوة وقال وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء فخذها بقوة وقال يايحيى خذ الكتاب بقوة أي بجد واجتهاد وعزم ، لا كمن يأخذ ما أمر به بتردد وفتور .
وقوله : ومن الضيق إلى السعة ثقة ورجاء .
يريد هروب العبد من ضيق صدره بالهموم والغموم والأحزان والمخاوف التي تعتريه في هذه الدار من جهة نفسه ، وما هو خارج عن نفسه مما يتعلق بأسباب مصالحه ، ومصالح من يتعلق به ، وما يتعلق بماله وبدنه وأهله وعدوه ، يهرب من ضيق صدره بذلك كله إلى سعة فضاء الثقة بالله تبارك وتعالى ، وصدق التوكل عليه ، وحسن الرجاء لجميل صنعه به ، وتوقع المرجو من لطفه وبره ، ومن أحسن كلام العامة قولهم : لا هم مع الله ، قال الله تعالى ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب قال : يجعل له مخرجا من كل ما ضاق على الناس ، وقال الربيع بن خثيم أبو العالية : مخرجا من كل شدة ، وهذا جامع لشدائد الدنيا والآخرة ، ومضايق الدنيا والآخرة ، فإن الله يجعل للمتقي من كل ما ضاق على الناس واشتد عليهم في الدنيا والآخرة مخرجا ، وقال الحسن : مخرجا مما نهاه عنه ، ومن يتوكل على الله فهو حسبه أي كافي من يثق به في نوائبه ومهماته ، يكفيه كل ما أهمه ، والحسب الكافي حسبنا الله كافينا الله .
[ ص: 469 ] وكلما كان العبد حسن الظن بالله ، حسن الرجاء له ، صادق التوكل عليه ، فإن الله لا يخيب أمله فيه البتة ، فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل ، ولا يضيع عمل عامل ، وعبر عن الثقة وحسن الظن بالسعة ، فإنه لا أشرح للصدر ، ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنه به .