فصل .
قال : ، بعد الاستحذاء له تعظيما ، والاشتغال به قربا . واعتصام خاصة الخاصة : بالاتصال ، وهو شهود الحق تفريدا
لما كان ذلك الانقطاع موصلا إلى هذا الاتصال كان ذلك للمتوسطين ، وهذا عنده لأهل الوصول .
ويعني بشهود الحق تفريدا أن يشهد الحق سبحانه وحده منفردا ، ولا شيء معه ، وذلك لفناء الشاهد في الشهود ، والحوالة في ذلك عند القوم : على الكشف .
وقد تقدم أن هذا ليس بكمال ، وأن الكمال أن يفنى بمراده عن مراد نفسه ، وأما فناؤه بشهوده عن شهود ما سواه فدون هذا الفناء في الرتبة كما تقدم
وأما قوله : بعد الاستحذاء له تعظيما ، فالشيخ لكثرة لهجه بالاستعارات عبر عن معنى لطيف عظيم بلفظة الاستحذاء التي هي استفعال من المحاذاة ، وهي المقابلة التي لا يبقى فيها جزء من المحاذي خارجا عما حاذاه ، بل قد واجهه وقابله بكليته وجميع أجزائه . ومراده بذلك : القرب ، وارتفاع الوسائط المانعة منه ، ولا ريب أن العبد يقرب من ربه ، والرب يقرب من عبده ، فأما قرب العبد فكقوله تعالى واسجد واقترب وقوله في الأثر الإلهي وكقوله : من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ، وفي الحديث الصحيح وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا [ ص: 465 ] أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي وفي الحديث أيضا أقرب ما يكون الرب من عبده في جوف الليل الأخير وفي الحديث الصحيح لما ارتفعت أصواتهم بالتكبير مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فقال أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد . يا أيها الناس ، اربعوا على أنفسكم ، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إن الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته
فعبر الشيخ عن طلب القرب منه ، ورفض الوسائط الحائلة بينه وبين القرب المطلوب الذي لا تقر عيون عابديه وأوليائه إلا به بالاستحذاء . وحقيقته موافاة العبد إلى حضرته وقدامه ، وبين يديه ، عكس حال من نبذه وراءه ظهريا ، وأعرض عنه ونأى بجانبه ، بمنزلة من ولى المطاع ظهره ، ومال بشقه عنه .
وهذا الأمر لا يدرك معناه إلا بوجوده وذوقه ، وأحسن ما يعبر عنه بالعبارة النبوية المحمدية ، وأقرب عبارات القوم أنه التقريب برفع الوسائط التي بارتفاعها يحصل للعبد حقيقة التعظيم ، فلذلك قال " الاستحذاء له تعظيما " .
ومن أراد فهم هذا كما ينبغي فعليه بفهم اسمه تعالى الباطن وفهم اسمه القريب مع امتلاء القلب بحبه ، ولهج اللسان بذكره ، ومن هاهنا يؤخذ العبد إلى الفناء الذي كان مشمرا إليه ، عاملا عليه .
فإن كان مشمرا إلى الفناء المتوسط ، وهو الفناء عن شهود السوى ، لم يبق في قلبه شهود لغيره البتة ، بل تضمحل الرسوم وتفنى الإشارات ، ويفنى من لم يكن ويبقى من لم [ ص: 466 ] يزل ، وفي هذا المقام يجيب داعي الفناء طوعا ورغبة لا كرها ، لأن هذا المقام امتزج فيه الحب بالتعظيم مع القرب ، وهو منتهى سفر الطالبين لمقام الفناء .
وإن كان العبد مشمرا للفناء العالي ، وهو الفناء عن إرادة السوى لم يبق في قلبه مراد يزاحم مراده الديني الشرعي النبوي القرآني ، بل يتحد المرادان فيصير عين مراد الرب هو مراد العبد ، وهذا حقيقة المحبة الخالصة ، وفيها يكون الاتحاد الصحيح ، وهو الاتحاد في المراد ، لا في المريد ، ولا في الإرادة .
فتدبر هذا الفرقان في هذا الموضع الذي طالما زلت فيه أقدام السالكين ، وضلت فيه أفهام الواجدين .
وفي هذا المقام حقيقة : يفنى من لم يكن إرادة وإيثارا ، ومحبة وتعظيما ، وخوفا ورجاء وتوكلا ، ويبقى من لم يزل ، وفيه ترتفع الوسائط بين الرب والعبد حقيقة ويحصل له الاستحذاء المذكور مقرونا بغاية الحب ، وغاية التعظيم .
وفي هذا المقام يجيب داعي الفناء في المحبة طوعا واختيارا لا كرها ، بل ينجذب إليه انجذاب قلب المحب وروحه ، الذي قد ملأت المحبة قلبه ، بحيث لم يبق فيه جزء فارغ منها إلى محبوبه الذي هو أكمل محبوب ، وأجله وأحقه بالحب .
وهذا الفناء أوجبه الحب الكامل الممتزج بالتعظيم والإجلال والقرب ، ومحو ما سوى مراد المحبوب من القلب ، بحيث لم يبق في القلب إلا المحبوب ومراده وهذا حقيقة الاعتصام به وبحبله ، والله المستعان .
وأما قوله : والاشتغال به قربا ، أي يشغله قرب الحق عن كل ما سواه ، وهذا حقيقة القرب ، ألا ترى أن القريب من السلطان جدا ، المقبل عليه ، المكلم له لا يشتغل بشيء البتة ؟ والله أعلم . فعلى قدر القرب من الله يكون اشتغال العبد به ،